عام >عام
كتبوا المكاتيب.. وأخدها الهوا ! هل أصبحت كتبوا الواتس أب.. ومحّاها ... !
كتبوا المكاتيب.. وأخدها الهوا ! هل أصبحت كتبوا الواتس أب.. ومحّاها ... ! ‎الاثنين 29 08 2016 14:25
كتبوا المكاتيب.. وأخدها الهوا ! هل أصبحت كتبوا الواتس أب.. ومحّاها ... !

رأفت نعيم

 

كثيرة هي اوجه الحياة التي افقدها الزمن المتسارع الخطى وهجها وجعل منها ذكرى، لكنها بقيت محفورة في الذاكرة تأبى ان تغادرها. فمن منا لا يحتفظ برسالة قديمة بخط اليد وصلته من عزيز او قريب او صديق.. مدموغة بطابع بريدي يعرف بالبلد الذي اتت منه؟.. ومن منا لا يحفظ اغنية تعبر عن شوق او عتاب تكون بطلتها المكاتيب والرسائل ان لم تكن الرياح والطيور والورود التي يحمّلها المحب ما يختلج في صدره لحبيبه؟.. وكم من رسائل كتبت ولم تصل .. وكم من رسائل وصلت متأخرة على موعدها.. وكم من رسائل طافت العالم قبل ان تصل الى وجهتها، بينما اليوم اصبحت الرسالة تخبر عن وصولها وتجتاز قارات ومحيطات وبلدانا بطرفة عين؟.

في «صريفا» احدى بلدات قرى صور يجلس الحاج «ابو فؤاد» متابعا عبر هاتفه الذكي لحظات وصول ولديه وحفيدته الذين ودعهم مؤخرا الى احدى الدول الأفريقية بعدما واكب رحلتهم من خلال «الواتس أب» لحظة بلحظة من المطار الى الطائرة الى المحطات التي مروا بها.. الى ان اطمأن إلى وصولهم..

يقول ابو فؤاد الذي اختبر السفر والبعد عن الأهل والأحبة في مطلع شبابه: «عجيب امر هذا الاختراع.. كنا في الماضي نبدأ رسائلنا الورقية المكتوبة بعبارة « ان كان صباح صباح الخير.. وإن كان مساء مساء الخير» لأننا لم نكن نعلم متى وفي أي وقت من اليوم تصل الرسالة.. بينما اليوم بكبسة زر تصبح في الجهة الأخرى من العالم ونعرف أن المتلقي قد قرأها ونسمع صوته ونرى صورته مباشرة».

حقيبة ابو ناصر وذكريات البوسطجي
انه تطور وسائل التواصل التي تجتاح حياتنا اليومية مقربة المسافات ومختصرة الزمن ومسدلة الستار على أخرى كانت صلة الوصل الوحيدة التي تربط بين المقيم والمغترب، فما كان يستغرق اياما واسابيع ليصل الى المرسل اليه اصبح يبلغه بلحظات.. زمن يفقد الرسالة الورقية وهجها ووظيفتها ويحيل حبر الأقلام الى التقاعد كما احال المهنة الأشهر خلال القرن الماضي «البوسطجي».

في منزله القروي في يحمر ( النبطية) يتأمل الحاج حسين ناصر في هاتف ذكي بيد ولده او احد من احفاده يتلقون عبره رسائل وصورا ومقاطع فيديو.. ثم يسترسل في تفكير عميق مستعيدا مسيرة عقود امضاها كساع للبريد متكبدا عناء التنقل طيلة النهار بين البلدات والقرى لإيصال «المكاتيب» التي كانت وسيلة تواصل وحيدة بين المغتربين والمقيمين.

«تغير كل شيء يقول ابو ناصر فقدت الرسالة «رهجتها» وفقدنا معها كثيرا من وهج علاقاتنا الانسانية التي باتت تطغى عليها المصلحة والمادة، لا روح فيها ولا احساس ولا تفاعل.. ولم تعد تحتاج اوراقا ولا مظاريف ولا بوسطجيا ينقلها بين مغترب ومقيم».

حتى دراجته النارية التي كان يستخدمها في تنقلاته ولا زال يحتفظ بها في قبو منزله يقول «لم يعد لها دور بعدما افل نجم صاحبها».

الى جانب حقيبة ذكرياته التي تفيض حنينا لذلك الزمن الجميل، ثمة حقيبة أخرى يتفقدها ابو ناصر كل فترة هي تلك التي كان يحمل فيها الرسائل والمكاتيب التي تفيض بأشواق الناس وافراحهم، كما بقي يحتفظ ببطاقة المهنة التي يعتز بها وببزته الرسمية ومعطف المشمع الذي كان يتقي به مطر الشتاء.

في زمن استبدل الحمام الزاجل بتغريدات التويتر، والهاتف السلكي بالبريد الصوتي والرسائل المكتوبة بالبريد الالكتروني و«السكايب والفايسبوك والواتس اب» وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي، لم يبق لنا من اثر رسائلنا القديمة سوى اوراق غيّر الزمن لونها، واغنيات نعود اليها كلما شدنا الحنين لذلك الزمن الجميل مرددين مع فيروز والرحابنة « كتبوا المكاتيب وأخدها الهوا»!.   

المصدر : المستقبل