السبت 26 تموز 2025 15:22 م

رحل زياد الرحباني… وسقط جزء من المعنى


* جنوبيات

كأن الوطن فقد صوته الساخر، ومرآته الأكثر صدقًا. كأننا صحونا على خبر لا يريد أن يستقر في القلب، فنُكذّب الواقع ونقاوم اليقين. رحل زياد، الذي ما كان مجرد فنان أو موسيقي، بل كان ضميرًا حيًّا يضحك حينًا من شدة القهر، ويبكي حين تعجز الكلمات. غاب من يشبهنا أكثر من أنفسنا. من كان يعرف كيف يلتقط هزائمنا الصغيرة، وانكساراتنا اليومية، ويحوّلها إلى نكتة مُرّة أو لازمة موسيقية تبكينا من حيث لا ندري. من كتب عنّا، من كتب لنا، من جعل الهشاشة بطولة، والصدق مذهبًا فنّيًا يقاوم كل ما هو زائف ومعلّب ومزيّف. في موته، خسر الفن العربي آخر القلائل الذين لم يخونوا ذائقتهم، والذين قاوموا الرداءة بالصوت والكلمة واللحن والمسرح. خسرنا العبقري الذي كانت موسيقاه تمشي على حافة الحزن، وتكسر الصمت بصوت البيانو، أو بجملة تهكمية تسخر من السياسة والفساد والتدين المزوّر والخيبة الجمعية. من ينسى "سهرية"، تلك المسرحية التي لم تكن مجرد عمل فنّي بل مرآة حقيقية لمجتمع مأزوم يعيش بين المقهى والأمل المعلّق، بين الحلم والواقع المتهالك؟ ومن ينسى "نزل السرور"، حين صرخ زياد في وجه السلطة والنفاق، بضحكة سوداء وحنكة لا يملكها سواه؟ "فيلم أمريكي طويل" لم يكن فيلماً، بل اعترافاً سياسيًا فنيًا صريحًا بالهزيمة والانهيار، و"شي فاشل" لم يكن فاشلاً على الإطلاق، بل كان تشريحًا لجسد الوطن المشظّى. أما "لولا فسحة الأمل" فكانت اسمًا على مسمّى: محاولة يائسة لإنقاذ ما تبقّى من المعنى في زمن لا يحتمل الأمل. زياد لم يكتب فقط للمسرح، بل كتب الذاكرة الجماعية لنا نحن الذين تربّينا على صوته المبحوح وألحانه التي تشبه تنهدات المساء في بيروت. زياد كان شاهدًا وشهيدًا على وجعنا الجماعي، على الحرب والفساد والطائفية، على خيبتنا السياسية والأخلاقية. كل نغمة كتبها، كل مشهد صرخ فيه ضد القبح، كانت ثورة صغيرة لا تموت. وحتى حين تعب، حتى حين صمت، ظلّ حضوره طاغيًا. ظلّ صوت البيانو في خلفية هذا البلد المتألم، ظلّ ظلّه يحوم فوق كرامة الناس، فوق "الشعب العنيد" الذي صدّقه حين لم يعد يثق بأحد. رحل زياد، وبقيت في القلب غصّة… لأنه لم يكن عابرًا. كان حاضرًا في كل لحظة صدق، في كل اعتراف بالضعف، في كل مساء نسهر فيه على وقع موسيقاه وندندن "بما إنو ما في شي نعملو"، ونضحك ونبكي في آن. موته ليس نهاية فنان… بل انطفاء زمنٍ كنا نظنه لا يزال ينبض. هو رحيل جيل، وانتهاء حقبة، وسقوط قامة كان يمكن أن تكون آخر ما تبقّى من هذا الوطن يشبه نفسه. لكن إرث زياد لم يقتصر على المسرح والكلمة، بل امتد ليشكّل ثورة في الموسيقى والغناء أيضًا. لقد مزّق الأطر الكلاسيكية للأغنية اللبنانية، وسار بها إلى أماكن لم يجرؤ أحد أن يذهب إليها. لم يهادن الذوق الشعبي السائد، ولم يكتب ليُرضي السوق، بل كتب ليقول الحقيقة، وصاغ موسيقاه كما لو كانت مانيفستو سياسيًا – موسيقى مقاومة، ضد الانحدار، ضد التكرار، ضد التفاهة. من خلال ألحانه الخارجة عن المألوف، وإيقاعاته المتحررة، وإصراره على المزج بين الجاز والموروث الشرقي، أعاد تشكيل معنى "الأغنية البديلة". لقد فتح الطريق أمام أجيال من الفنانين الذين أرادوا أن يغنّوا وجعهم دون أقنعة، وأن يصرخوا خارج سرب الطرب النظيف والتعبير المنمّق، الذي لا يشبه الحياة. أغانيه مع فيروز، بصوته أو كلماتها، كانت اختراقًا فنيًا لحالة من الجمود السياسي والعاطفي، كما في "كيفك إنت"، "بلا ولا شي"، "عودك رنان"، و"أنا مش كافر" التي كانت بمثابة صفعة على وجه كل من استغل الله لخدمة مصالحه. وبين مشاهد الحرب، وانقطاع الكهرباء، وضجيج الخيبات، كان صوت زياد يخرج من الراديو أو المسرح كأنّه تذكير دائم: أن الجمال لا يُساوِم، وأن الفن الحقيقي لا يركع. أثّر زياد في الذائقة، ليس فقط بما قدّم، بل بما رفض أن يقدّمه. اختار الصدق، حين كان الكذب أسهل. واختار أن يكون فنانًا حرًا، لا أسيرًا للنجومية أو الجمهور أو اللعبة السياسية. لهذا، حين رحل، لم نشعر فقط بأن فنانًا مات. بل شعرنا أن جزءًا من وعينا، من شبابنا، من مقاومتنا الداخلية... قد انطفأ. سلامٌ لروحك يا زياد، وآه طويلة لا يكفيها الكلام، ولا تطفئها الأغاني. تركتنا وحدنا مع هذا الصمت... ومع وطن صار بلا لحن، بلا تهكّم، بلا مرآة.

المصدر :جنوبيات