الاثنين 13 آذار 2023 09:16 ص

"مفردٌ جمعٌ، وتعدّديٌّ موحّدٌ"!


* جنوبيات

إنّه عنوان استقيته من سيّد البلاغة، وفرقد الضّاد، وابن بجدتها الدستوريّ المميّز والعلّامة القانونيّ والمشرّع الأمثل، وفوق هذا وذاك، هو الأديب الأريب، والشّاعر الألمعيّ، والكاتب الخصب بمفردات قلّ نظيرها عند غيره من الكتّاب والأدباء والمفكّرين والشعراء المبدعين. 

إنّه الوزير السّابق والنّائب (لعقود خلت) الأستاذ إدمون رزق، السياسيّ المخضرم والكاتب تحت القسم الذي يحتوي سواه على ما عداه. 
إنّ هذه الكلمات ربما لا تحيط بصفات هذا الإنسان المنفتح على عروبته بتحقيق لبنانيّته، والمطلّ على العالميّة بأبعاد أفكاره الإنسانيّة الخلّاقة، والعلمانيّ رغم انعطافاته السياسيّة بعيد العام ١٩٨٤ (تاريخ مغادرته لحزب الكتائب). 
يوم مولدي في العاشر من آذار، وبناء على موعد مسبق، تمّ اللقاء بهذا الخطيب المفوّه بمعيّة صديق الدراسة المحامي المميّز الأستاذ وليد أبو ديّة (ذاكرة نقابة المحامين وحافظ تاريخها والمحافظ عليه)، فكانت جلسة "تؤرشَف" بماء الذّهب، وتُحفر على خشب الأرز العتيق. 
لقاء عَطِرٌ ممزوج برائحة المسك والعنبر مع إنسان لم تغيّره أعوام العمر الثّقال، فكان حديثًا ولا أروع، إذ استقينا من منهل عقله الحاضر وذهنه الوقّاد معلومات قيّمة عن تاريخ الصّحافة اللبنانيّة وعلاقتها مع جهابذة الفكر النيّر، وتذوَّقنا حلاوة السّياسة مع رجالات الوطن منذ الاستقلال، وعرّجنا على رجالات الدولة من رؤساء الجمهوريّات المتعاقبة، ورؤساء مجلس النوّاب الذين تعاقبت عطوفتهم على تولّي عمق التشريع. وتطرّقنا إلى رؤساء الحكومات الذين أمسكوا بزمام السلطة التنفيذيّة وخططها التوجيهيّة في محاكاة لأحداث مرّت بصعودها اللافت وانهيارها المدوّي. 
وقد علمنا وتعلّمنا أنّ مسيرة الحياة الدّنيا ما هي إلّا متاع الغُرور مع بعض سياسيّي الغفلة والغَرور. كيف لا وهو الذي تعلّم القرآن على أيدي رهبان "دير مشموشة". 

هذا وتناقشنا معًا الأوضاع التي نعيشها اليوم في بلد الحرمان والخذلان، والخزعبلات والترّهات، وانعدام القيادة والريادة، وتفشّي الفساد في البلاد "كسُوسِ خشبٍ أفرغ الوطن من محتواه".

جلسة طالت لأكثر من ساعتين تمنّينا لو  تطول أكثر، إذ كان الوقت يمرّ كسحابِ غيمٍ يترافق مع حباب المطر. وكنّا نتلقّف الهُنيهة لنشعر بدفء الجلسة في جوّ عاصف بكلامٍ من الطّراز الأرفع، وعبارات ترتسم على شفاه رجل لم تأخذ السنون شعلة حكمته وكُنه معرفته. 

وعندما أحسسنا وزميلي أنّ الوقت قد أزف للمغادرة، وقفنا لأكثر من دقيقتين في ردهة المنزل العبق بتراث المحبّة، وديمومة السّلام، فقال لنا معاليه بلكنته الجزّينيّة: "يا شباب دينُونا أن تبقوا لتناول طعام الغداء من حواضر البيت"...

وعندما أصررنا على المغادرة لارتباطنا بموعد آخر قال لنا خاتمًا الجلسة الفكريّة الغنيّة بكلام من النوع النّادر بأبعاده السياسيّة والوطنيّة، فكان ختامها مسكًا وعنبرًا إذ قال: "أنا أوّل من قلت عن لبنان إنّه مفردٌ جمع، وتعدّديّ موحّد"!  
وتبعَنا إلى المصعد الكهربائي، فغادَرْنا على أمل لقاء آخر يحمل معه الكثير من معطيات تؤسّس للبنان الغد.
وتذكّرنا معًا مقولة الزعيم الوطنيّ صائب بك سلام: "لبنان واحد لا لبنانان"...

المصدر :جنوبيات