الأحد 22 تشرين الأول 2023 08:15 ص

"الإلحاح المتواصل"!


* جنوبيات

عبد المطّلب محسن عبد الكريم الأمين (1915_1974) شاعر وصحافيّ ودبلوماسيّ سوريّ من أصل لبنانيّ. وُلد في دمشق حيث كان والده العلّامة السيّد محسن الأمين مقيمًا. وقد تلقّى تعليمه في دمشق، وتخرّج من كلّيّة الحقوق، ثمّ عُيّن مدرّسًا للّغة العربيّة في دار المعلّمين الريفيّة ببغداد. ومن بعدها عُيّن قائمًا بأعمال السّفارة السّوريّة في موسكو. ثمّ نُقل إلى السّفارة السّوريّة في بغداد. ومن بعدها تمّ نقله إلى الإدارة المركزيّة في دمشق. 

ومن نوادر ما حصل معه في حياته الدبلوماسيّة أنّه بعد ثلاثة أشهر من تعيينه قائمًا بأعمال السّفارة السّوريّة، طلب مقابلة وزير خارجيّة الاتّحاد السوڤياتيّ آنذاك "مولوتوف" الذي كان يعرف بـ"الرّجل ذي المطرقة الحديديّة"، وكما يُقال بالعامّيّة «وجّو ما بيضحك لرغيف السّخن».
لم يتمّ تلبية طلبه في حينها، ولكنّه كرّر الطّلب عدّة مرّات ملحًّا على الخارجيّة السوڤياتيّة بضرورة مقابلته لوزير الخارجيّة شخصيًّا.
فقال "مولوتوف": أين تقع سوريا على خريطة العالم؟ 
وأمام الإلحاح المتواصل للقائم بالأعمال، وافق "مولوتوف" على مقابلة القائم بالأعمال السّوريّ لكي يعرف ما هو سبب الإلحاح في طلب مقابلته. 
كان "مولوتوف" عابسًا متجهّمًا، في بداية المقابلة مع السيّد "عبد المطّلب الأمين"، وسأله: ماذا تريد؟
أجاب "عبد المطّلب" بابتسامة:
 لقد جئت إلى هنا لأنقل إليكم أسمى التّحايا باسمي وباسم حكومتي وباسم الشّعب العربيّ السوريّ، ولأطمئنكم وأطمئن حكومتكم وشعبها بأنّه ليست لدينا أيّ مطامع استعماريّة في الاتّحاد السوڤياتيّ.
انفجر مولوتوف ضاحكًا، ولم يتوقّف عن الضّحك حتّى كاد يغشى عليه.
وأخذ يعيد ويسأل عبد المطّلب:
 ماذا تقول؟
 ليست لديكم مطامع في الاتّحاد السوڤياتيّ! ثمّ يعاود الضّحك. 
ولم يهدأ مولوتوف حتّى تجرّع كأسًا مضاعفًا من الفودكا، وطلب تأجيل مواعيده، وأشعل سيجارة وهو يبتسم ابتسامة عريضة لم يرسم مثلها على وجهه، لا من قبل ولا من بعد، وفق ما كتبه المؤرّخ الروسيّ "سيميانوف". ثمّ دعا القائم بالأعمال السوريّ إلى صالون مكتبه وشربا العصير معًا.
وبعدها سأله "مولوتوف":
 ما هي قصّتك؟
أجاب عبد المطّلب:
 إذا لم تصدّق ما قلته لك عن عدم رغبتنا باستعمار الاتّحاد السوڤياتيّ، فلماذا تراقبني الأجهزة الأمنيّة السوڤياتيّة KGB صباح مساء، ولا تترك لي فرصة التنفّس؟
ومنذ ذلك الحين، بدأت رحلة الصّداقة العميقة بين الرّجلين، وقد كان كلاهما يتقن الفرنسيّة بطلاقة.
أمر "مولوتوف" بالتّوقّف عن مراقبة السيّد "عبد المطّلب الأمين"، وفي الحفلات الدبلوماسيّة التي يكون فيها "مولوتوف" كان يبحث عن "عبد المطّلب الأمين" ويستقبله بحرارة ويقول عنه: "صديقي السّوريّ الرّائع".
وكان "مولوتوف" يتحيّن الفرص ليسأل "عبد المطّلب الأمين" عن أحواله وعن حياته في موسكو. وقد كان يحتفي به أيضًا كونه شاعرًا وأديبًا وكاتبًا روائيًّا بالعربيّة وبالفرنسيّة.
وبين الحين والآخر، كان "مولوتوف" يدعو "عبد المطّلب" ليسمع منه آخر النّكات السياسيّة التي يبدعها باللغة الرّوسيّة التي أتقنها بسرعة، والتي كانت تنتشر كالهشيم في الشّارع السوڤياتيّ.
وقد لعب "عبد المطّلب الأمين"، بظرفه وخفّة دمه، دورًا مهمًّا في توطيد العلاقة بين البلدين.
إنّهم النّدرة من الرّجال الذين تركوا بصمة مميّزة في الحياة الدبلوماسيّة في زمن المحن والفتن. 
فأين نحن اليوم من هؤلاء الرّجال ونحن نرى أشباه الرّجال يعيثون في الأرض فسادًا ولا من يحاسب؟!
هزلت...

المصدر :جنوبيات