بأقلامهم >بأقلامهم
مسلسل "يا غايب".. حكاية فضل شاكر بين الفن، والدين، والجدل



جنوبيات
في السنوات الأخيرة، شكّلت قصة الفنان اللبناني فضل شاكر مادة دسمة للجدل الشعبي والإعلامي، لما تنطوي عليه من تحوّلات دراماتيكية غير مألوفة، لفنانٍ حجز لنفسه مكانة مرموقة في قلوب الملايين بأغانيه الرومانسية، قبل أن يتحوّل إلى شخصية مثيرة للجدل إثر انخراطه في أوساط دينية متشددة.
يحاول مسلسل “يا غايب” أن يعرض هذه القصة المتشابكة بمستوى عالٍ من الجرأة والإحساس، ملامسًا الجوانب الإنسانية والسياسية والدينية في حياة شاكر.
في خطوة فنية جريئة، يطلّ الفنان اللبناني فضل شاكر على جمهوره مجددًا من خلال مسلسل وثائقي بعنوان “يا غايب”، يُعرض على منصة “شاهد” التابعة لمجموعة MBC. يتناول العمل سيرته الذاتية، مستعرضًا محطات مفصلية في حياته، من خلال شخصية صحافية تؤدي دورها الفنانة ستيفاني عطالله، التي تغوص في ماضيه المثير للجدل.
يبدأ المسلسل بتصوير المرحلة الذهبية من حياة فضل شاكر كفنان محبوب، عندما كانت صوره تملأ الصحف، وأغانيه تتصدر القوائم. وتُقدّم الحلقات الأولى خلفية درامية لصعوده في عالم الفن، مع التركيز على علاقته بأسرته، ومحيطه، وشغفه الحقيقي بالموسيقى. ثم يأخذ المسلسل منعطفًا حادًا، حين تبدأ ملامح التحول الفكري بالظهور في حياته. وهنا، لا يسعى العمل إلى تبريره أو إدانته، بل يُسلّط الضوء على عوامل الضغط النفسي والاجتماعي والسياسي التي قد تساهم في انزلاق أي إنسان نحو مسارات لم تكن واردة في حياته.
ومع انخراطه في صفوف جماعات دينية متشددة، وتحديدًا ارتباطه بالشيخ أحمد الأسير، يتحوّل السياق الدرامي من حكاية فنان إلى مأساة إنسانية، إذ يُظهر العمل كيف يمكن للإيمان، إذا ما وُجّه خارج السياق الصحيح، أن يتحول إلى باب للهلاك.
في زمن أصبحت فيه الأحكام المسبقة أسرع من التأمل، يأتي مسلسل “يا غايب” كعمل فني يحاول كسر هذا الإيقاع، متقدمًا بخطى حذرة وسط حقل ألغام فكري وإنساني، يتجسّد في شخصية فنية شديدة الالتباس: فضل شاكر.
بين المجد الغنائي والانكفاء الديني، وبين النشوة الجماهيرية والانزواء خلف السواتر، يصوغ العمل حكاية لا عن الإدانة أو التبرئة، بل عن الإنسان الذي تغيّب، وربما غُيّب، في زحمة التحولات.
يعتمد المسلسل سردًا زمنيًا متقاطعًا يعكس تشظّي الحالة التي يعيشها بطله. ولا يحاول رسم خط بياني مستقيم لمسيرته، بل يقدّمه كمزيج متنافر من العذوبة والغضب، من الإيمان والحيرة، من النقاء والتناقض. نراه الطفل الحالم في صيدا، والنجم العاشق على مسارح بيروت، ثم نتابع انحداره أو انسحابه إلى فضاء ديني/أيديولوجي لم يُعرف كيف يقرأه كثيرون:
هل كان هروبًا من عالم لا يرحم؟ أم قناعة تامة بأفق مختلف؟
هنا تتجلّى جرأة النص الدرامي: لا إدانة جاهزة، ولا تطهير متصنّع، بل محاولة لفهم الأسباب، والإنصات إلى تلك المسافة الخفية بين الفنان والإنسان، بين ما يُقال وما يُخفى.
ومن أبرز عناصر القوة في المسلسل تركيزه على الجانب الإنساني والمأساوي في حياة فضل شاكر بعد اتهامه بالإرهاب. إذ يُظهر كيف أن الفنان، الذي حمل نية صادقة في “التوبة والرجوع إلى الله”، وجد نفسه فجأة في أتون مواجهة أمنية وسياسية لم يكن مستعدًا لها.
ورغم أن المسلسل لا يبرّئه تمامًا، إلا أنه يسلّط الضوء على الظلم الذي لحق به من أطراف متعددة، منها الإعلام الذي شنّع عليه، وأطراف سياسية استغلت ظهوره مع الجماعة الدينية لإحراق صورته الفنية. كما يستعرض محاولته التراجع عن الطريق الذي سلكه، وإعلانه التوبة، وهي توبة لم تُقابل دومًا بقبول مجتمعي أو رسمي.
أما من الناحية الفنية، فيعتمد السيناريو أسلوب السرد المزدوج، حيث تتنقل الصحافية بين الماضي والحاضر، محاولةً كشف غموض حياة فضل شاكر. يُظهر العمل صراعًا داخليًا بين الفنان وقراراته المصيرية، مما يضفي عمقًا دراميًا.
ومع ذلك، قد يشعر المشاهد أحيانًا بأن بعض الحوارات تفتقر إلى الإقناع، لا سيّما في مشاهد التوتر، حيث تبدو ردود الأفعال مبالغًا فيها أو غير متسقة مع السياق.
تُعدّ ستيفاني عطالله في دور الصحافية إضافة قوية للعمل، حيث أبدعت في التعبير عن التوتر الداخلي والتساؤلات الوجودية التي تراود شخصيتها. فقد استعان العمل بثلاثة ممثلين (ريان حمو، وعزام الشبعان، وعماد عزمى) لتجسيد شخصية فضل شاكر في مراحل عمرية مختلفة ضمن خط درامي، أما عماد عزمي، الذي جسّد دور فضل شاكر في مرحلة الشباب، فقدّم أداءً مقنعًا، عبّر فيه عن التغيرات النفسية التي مر بها الفنان.
في المقابل، ورغم أن أدوار سميرة الأسير، وطلال الجردي، ودارينا الجندي كانت ثانوية، فإنهم قدّموا أداءً متقنًا أسهم في تماسك العمل ككل.
أما على صعيد الإخراج، فقد تميز بالاهتمام بالتفاصيل، إذ جرى تصوير المسلسل في تركيا، ما أضفى عليه بُعدًا بصريًا مميزًا. وقد استُخدمت تقنيات الإضاءة والديكور بفعالية لنقل الأجواء المختلفة بين الفترات الزمنية. مع ذلك، يُؤخذ على بعض المشاهد طولها أو بطؤها، مما أثر على وتيرة السرد أحيانًا.
ورغم الطابع الواقعي الذي ميّز العمل، فإن الجانب الفني لم يغب لحظة. فالأغاني التي ميّزت صوت فضل شاكر عادت هنا، لا بوصفها توثيقًا لمراحل، بل كصدى داخلي لما كان يدور في أعماقه.
من “يا غايب” إلى “لو على قلبي”، تحوّلت الموسيقى إلى لغة سردية موازية، وثّقت أجمل لحظاته، ثم تحوّلت تدريجيًا إلى صوت حنين، وربما ندم. وقد وظّف الإخراج هذه المقاطع بتوازن، فلا انزلق إلى استدرار العاطفة المجاني، ولا جعل منها مجرد خلفية، بل منحها دورًا فعّالًا في رسم الحالة النفسية التي يعيشها البطل في كل مرحلة.
إن مسلسل “يا غايب” ليس مجرّد سرد لسيرة فضل شاكر، بل هو تأمّل درامي في هشاشة الإنسان حين تتقاطع العاطفة بالإيمان، وتتداخل الهوية بالسياسة.
فهل كان فضل شاكر ضحية محيط معقّد، أم شريكًا في مسار خطير؟ هل كان يبحث عن النجاة؟ أم يفرّ من عالم قاسٍ؟ وهل التوبة وحدها تكفي لتجاوز ما ارتُكب؟ أم أن المجتمعات لا تنسى بسهولة؟
لا يقدّم العمل إجابات قاطعة، بل يدعونا إلى إعادة التفكير في الطريقة التي نحاكم بها الأشخاص، لا سيّما أولئك الذين يسقطون من أعالي النجومية إلى هامش الإدانة.
هو لا يسعى إلى تبرير ما لا يُبرَّر، لكنه في الوقت ذاته يرفض تسطيح الحكاية أو تحويلها إلى قصة إخبارية مختزلة. إنه دعوة للتأمل، وإعادة النظر، وقبل كل شيء: إعادة الاستماع… لا إلى صوت فضل فحسب، بل إلى صوته الداخلي.
وفي النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا:
هل نمنح الذين أخطأوا فرصة ثانية إذا أبدوا ندمًا صادقًا؟ أم نظل أسرى لذاكرتنا الانتقائية التي لا تغفر؟