بأقلامهم >بأقلامهم
نتنياهو يلتمس "الهلال الإسرائيليّ" في سماء سوريا!



جنوبيات
ما كان تهويلاً صار تهديداً، وما كان وهماً صار ممكناً، فقد انتهت سوريا الّتي وصفها «هنري كسنجر» في مقال له عام 2012، بأنّها «مركز للتّوازن الإقليمي»، فالتّوازن الإقليميّ اختلّ وموازين القوى انقلبت لصالح «إسرائيل»، حتّى تاريخه.
هذه خلاصة ثقيلة على السّمع وعسيرة على الإدراك، لكنّها حقيقة يجب الاعتراف بها والبناء عليها، كي لا نقع في أوهام جديدة تعيدنا إلى نكبات ونكسات وخيبات قديمة.
كنّا نظنّ، سابقاً، بأنّ مفهوم «إسرائيل الكبرى» شعار يطلق على سبيل التّهويل، وأنّ مشروع «ممرّ داوود» مجرّد فزّاعة تستخدم في صناعة وعي معادٍ للكيان الغاصب، ولكن، بعد سقوط النّظام في سوريا وانتشار الفوضى، المنظّمة ربّما، وارتكاب المجازر بحقّ العلويين في السّاحل وتهديد الدّروز في الجنوب، من قبل من يُفترض بهم حفظ الأمن وحماية المواطنين، استفادت «إسرائيل» من كلّ تلك الوقائع وبدأت، فعليًّا، بالعمل على تحقيق أهدافها الكبرى، وهذه الأهداف «لم تكن مجرّد شعار سياسيّ لحركات يمينيّة متطرّفة، حسب المؤرخ الإسرائيلي «إيلان بابيه»، بل سرديّة متجذّرة في الفكر الصّهيوني الكلاسيكي.
وهذا ما يحاول «بنيامين نتنياهو» ترجمته اليوم على المستوى الجيوسياسي بعدما كان هاجس «عقدة الثمانين» يؤرّق قادة «إسرائيل» من خلفيّة توراتيّة، فانتقل الحديث بعد الاستيقاظ من صدمة «طوفان الأقصى» إلى تثبيت «الاستقلال الثّاني» ثمّ غيّر اسم الحرب من «السّيوف الحديديّة» إلى «حرب الانبعاث» ليتحدّث عن قيامة جديدة لـ«دولة إسرائيل».
وبعد سلسلة الإنجازات العسكريّة في غزّة ولبنان ذهب «نتنياهو» بعيداً في طموحاته عبر العمل على تطويق العمق العربي بعلاقات أمنية وتجاريّة بهدف تحقيق ما يمكن تسميته بـ«الهلال الإسرائيلي» الّذي يربط بين دول الطّوق من خلال مشاريع الطّاقة والنّقل، بناء على تقارير صادرة عن معهد دراسات الأمن القومي في «تل أبيب».
و«الهلال الإسرائيلي» مصطلح مقابل لمصطلح «الهلال الشّيعي» الّذي أطلقه العاهل الأردني «عبدالله الثّاني» عام 2004 وقصد فيه نفوذ إيران وحلفائها في المنطقة.
وفيما تعتقد «إسرائيل» بأفول الهلال الشّيعي تسعى لولادة الهلال الاسرائيلي انطلاقاً من سماء سوريا الملبّدة بدخان الغارات، ليصير قوساً جغرافيًّا تسعى «تل أبيب» إلى رسمه عبر اتفاقيات ومشاريع استراتيجية تربط بين الأردن ومصر ودول الخليج وقبرص واليونان، بما يشبه «حزام أمني اقتصادي» يعيد تعريف حدود «إسرائيل» الإقليميّة، ليس من منظور الجغرافيا فقط، بل من خلال شبكات المصالح العابرة للدّول.
هذه النّقلة في العقل الإسرائيلي لا تعني التّخلّي عن حلم «إسرائيل الكبرى» جغرافيًّا، ولكن ضرورات المرحلة تقتضي توسيع المجال الحيوي للكيان عبر أدوات ناعمة مثل خطوط الغاز وتحالفات الاتصالات الرقميّة والموانئ المشتركة وغيرها من الاتّفاقيات الأمنيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة.
من هنا يمكن فهم مشروع «ممر داوود» باعتباره بديلاً أكثر واقعيّة عن مفهوم «إسرائيل الكبرى» بالمعنى الجغرافي، فبدل اغتصاب الأراضي يمكن الاستعمار بالاستثمار من خلال المشاريع الهيكليّة العابرة للدّول من أنابيب الغاز إلى الموانئ والسكك الحديدية، أو الهيمنة عبر التّحكّم بالبنية التحتية، بهدف بناء شبكة مصالح تجعل من «إسرئيل» ضرورة في أي مشروع اقتصاديّ في المنطقة.
وقد ورد مصطلح «دبلوماسية البنية التّحتيّة» في مقال بعنوان «حان الوقت لتتبنّى إسرائيل دورها كقوة إقليمية» كتبه المسؤول السّابق في «الموساد» والباحث في مركز القدس للشّؤون الأمنيّة والخارجيّة «عوديد عيلام»، ويقول في ذات المقال الّذي نشره «مركز القدس للشّؤون العامّة والسّياسة»: «يجب على إسرائيل قيادة مشاريع إقليميّة كبرى في مجالات المياه وأمن الغذاء والذّكاء الاصطناعي». ويرى أنّ «بإمكان إسرائيل، ويجب عليها، البدء بالتّصرّف، ليس فقط كدولة تسعى للبقاء، بل كقوّة إقليميّة فاعلة تشكّل مستقبل الشّرق الأوسط».
ولتحقيق كلّ ذلك تسعى «إسرائيل» لتوظيف كلّ إمكاناتها الديبلوماسية والأمنية والعسكرية وتستغل كل ضعف ووهن وشقاق بين شعوب المنطقة المنقسمة أصلا على نفسها طائفيًّا ومذهبيًّا، وها هي سوريا شاهد حيّ على كلّ ما ابتليت به أوطاننا من جهل داخليّ وطمع خارجيّ.
وفي معلومات ميدانيّة من مصادر موثوقة يتمّ التّجهيز، قريباً، لطرد «هيئة تحرير الشّام» والحكم الجديد بقيادة «أحمد الشّرع» من الجنوب السّوري، ابتداءً من القنيطرة وصولاً إلى درعا والسّويداء ثمّ التّنف وشرق الفرات لاحقاً.
وتعمل «إسرائيل» على تغذية نزعة الانفصال لدى المكوّن الدّرزي وتعده بضم ريف دمشق الجنوبي إلى الجنوب السوري فتصير صحنايا وجرمانا حدود الإقليم الجديد الموعود.
ولم تأتِ الغارة الحربيّة الاسرائيلية قرب القصر الرئاسي السوري لتهدّد أحمد الشرع فقط، بل هي رسالة للدول الداعمة لسوريا الجديدة مضمونها واضح: نحن من يحدّد مواصفات ساكن القصر، وأوّل المواصفات أن لا يهدّد مصالح «إسرائيل» وأمنها.
وأوّل المعنيين بالرّسالة الرّئيس التّركي رجب طيب أردوغان، لأنّ الاحتكاك التركي - الإسرائيلي في سوريا يتمحور حول النفوذ الجغرافي، فمن يحكم الأرض يتحكّم بالقرار السياسي والاستراتيجي.
وعليه، فإنّ مشروع تقسيم سوريا إلى أقاليم طائفيّة يهدف إلى استنساخ القرار ١٧٠١ وتطبيقه إقليميًّا على جميع حدود فلسطين المحتلّة لتأمين حدود الكيان على المدى البعيد.
هكذا تفكّر «إسرائيل»، ولكن، تراكم الأزمات الّتي أدّت إلى انقسامات عموديّة داخل الكيان وستظهر تبعاتها بعد نهاية الحرب، وتعقيدات الملفّات في المنطقة ليست بالسّهولة الّتي تسمح لها بترجمة أفكارها، ثمّة تركيا ومكاسبها وإيران ومصالحها ومصر ودورها والسّعوديّة وطموحاتها والعراق وهمومه، والجميع بانتظار نتائج التّفاوض الأميركي - الإيراني ليبنى على الشّيء مقتضاه، فلا يمكن فصل ملفّ عن آخر في أكثر المناطق حساسيّة وحيويّة في العالم!