مقالات مختارة >مقالات مختارة
ما هو سرّ "بديع صفصوف"؟


زياد عيتاني
ماذا صنع بديع صفصوف كي تحزن مدينة بناسها وأهلها وقاطنيها على رحيله؟ هل لهذا الرجل سرّ عند الله لا يعلمه عباد الله، كي يصبح موته خبر الناس وفجيعة مدينة وحزن قوم وأقوام؟
ذاك الرجل الأسمر البدين، الذي يحمل ملامح البيارتة في تقاسيم وجهه ولون بشرته ومخارج حروف كلماته وجلسته أمام دكّانه في الطريق الجديدة. لم يكن رئيساً لحزب أو تيّار أو زعيماً لميليشيا مسلّحة تقتني الرشّاشات والصواريخ والقنابل والمسيّرات. لم يترشّح يوماً لمنصب رسمي نيابي أو بلديّ. المنصب الوحيد الذي شغله وأحبّه وتمسّك به وعمل من أجله كان منصب نائب رئيس لجنة جامع الإمام عليّ بن أبي طالب. كيف لا وهو جار المسجد.
كانت عيناه لا تفارق مكانين: الأوّل دكّانه حيث يعمل الموظّفون بكدّ وإخلاص ويشتري الزبائن بحبّ وشغف على الرغم من طول الانتظار. والثاني مدخل مسجد الإمام عليّ، ودائماً كان يضع كرسيه على رصيف الدكّان حيث يرصد المكانين. هو ليس نائباً للجنة المسجد بل هو حارسه الأمين والمتابع لكلّ التفاصيل والباذل من ماله من أجل راحة المصلّين.
بيروت حزينة
بيروت في تاريخها قاسية الملامح، ومن النادر أن تحزن برمّتها، بشوارعها وأزقّتها وناسها وعائلاتها. الحزن فيها دائماً متقطّع يأتي على دفعات تماماً كفصل الشتاء فيها. إلّا أنّ هذه المدينة القاسية عندما تحزن بشكل جماعي يكون الحدث جللاً والمصاب كبيراً، إمّا لموت عالم كما فعلت مع مفتيها الشيخ حسن خالد وعلّامتها الشيخ مختار العلايلي الذي شيّعته تحت القصف وخطر الموت يحيط بالجنازة، مصمّمة على وداعه حيث ووري الثرى قرب الإمام الأوزاعي، أو عند موت زعيم كما فعلت مع استشهاد حبيبها رفيق. إلّا أنّها لم تفعل سابقاً كما تفعل اليوم مع بديع صفصوف، فهذا الرجل لا علاقة له بشيء مع أنّ بصماته في كلّ شيء.
لم يسكن بديع صفصوف الطريق الجديدة. بل الطريق الجديدة هي التي سكنت قلبه بحجارتها وأبنيتها وبشبابها
يعرف كلّ الوجوه والأسماء
هو الرجل الوحيد في المدينة الذي يلقي التحيّة على آلاف الناس كلّ يوم. يعرف الأسماء كلّها والوجوه كلّها. يكفي أن تقول له “السلام عليكم” فيجيبك: “وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، كيف أبوك؟ أو رحمة الله على أبيك”.
لم يسكن “بديع صفصوف” الطريق الجديدة. بل الطريق الجديدة هي التي سكنت قلبه بحجارتها وأبنيتها وبشبابها. كان يجلس متوتّراً عندما يخرج شباب المنطقة على درّاجاتهم النارية معترضين ويطمئن على كلّ واحد باسمه عندما يعودون قائلاً جملته الشهيرة: “سلامة الشباب هي الأهمّ”.
يرحل “بديع صفصوف” تاركاً توأمه كمال وأولاداً بررة، تماماً كما فعل والده أبو بديع، فسرُّ هذه العائلة أنّها تحترم الكبير وتعطف على الصغير. فالعمّ أبو زياد صفصوف هو البركة والأصل كما كان يصفه بديع، وكما بات يصفه كلّ أهالي الطريق الجديدة، الصغير منهم والكبير.