ثقافة وفن ومنوعات >ثقافة وفن ومنوعات
من هو الملك الذي استحمّ فقط مرتين في حياته!
من هو الملك الذي استحمّ فقط مرتين في حياته! ‎الجمعة 30 05 2025 14:01
من هو الملك الذي استحمّ فقط مرتين في حياته!

شادي منصور

يعتقد أنّ السومريين الذين خلّدوا الحضارة السومرية، أقدم الحضارات في تاريخ الإنسانية، والذين وُجدوا قبل 4000 أو 4500 سنة ق.م، وسكنوا بلاد ما بين النهرين كانوا أول من استخدم الأحواض الصغيرة للاستحمام. تبعهم المصريون القدماء الذين طوروا الفكرة، وربطوها بمعتقداتهم وطقوسهم، حيث كان الاستحمام يتم على ضفاف النيل، أو في البيوت عبر أوعية فخارية. فهم من أكثر الشعوب اهتمامًا بالنظافة الشخصية، وتفوقوا حتى على من أتى بعدهم، فاستحموا يوميًا خصوصًا بسبب الحر، واعتبروا أنّ النظافة جزء من الطهارة الدينية والصحيّة، وتفننوا في استخدام المعطّرات، فكانوا يغتسلون بالزيوت العطرية والصابون المصنوع من خليط الزيوت الحيوانية أو النباتية مع الأملاح الطبيعية.

وفرض على الكهنة الاستحمام عدة مرات يوميًا قبل أداء الطقوس الدينية.

أمّا شعوب وادي السند، فيعتقد أنهم أول من بنى أنظمة الصرف الصحي، وسبقوا الإغريق والرومان، وكانت متطورة جدًّا، فأوجدوا ما يُعرف بالحمام الكبير الشهير، الذي اعتبر أول بناء جماعي للاستحمام.

لم يتأخر الإغريق (800 قم) بتطوير أماكن الاستحمام تحديدًا في صالات الرياضة التي كانوا أول من أنشأها (Gym nos) Gymnasium) واستخدموا عبرها القنوات المائية. فاهتموا كثيرًا بالاغتسال خصوصًا بعد الرياضة والتمارين والاحتفالات، ولكنّهم اعتمدوا فقط على المياه الباردة.

وبدءًا من القرن الثاني قبل الميلاد وصاعدًا، سُجّل أنّ الرومان هم أول الشعوب التي نظّمت الحمّامات العامة الضخمة والفخمة، والتي تُعرف في عصرنا الحالي بالحمامات الرومانية، ولا تزال آثارها شاهدة في العديد من بلدان الإمبراطورية العظيمة، وجعلوها جزءًا من الحياة اليومية للمواطنين أغنياء كانوا أو فقراء، وطوّروا أنظمة تسخين المياه التي نعرفها اليوم، وأنشأوا أنظمة الصرف الصحي.

إذًا إنصافًا للتاريخ، ولكلّ من يتّهم الأوروبيين بقلّة النظافة، كان اليونانيون والرومان أول من عرف قيمة الماء وحضارة “الماء” وخلّدوها في بناءاتهم وصروحهم الضخمة، وفي سواقيهم ونوافيرهم وبركهم. ولكن مع سقوط روما ومرحلة العصور الوسطى، بدءًا من القرن الخامس م بدأ التراجع التدريجي في الاستحمام، ومع انتشار وتعاظم الأوبئة والأمراض المُعدية والجهل بأمراض الجراثيم وعلاجاتها عمّ الجهل، وساد الاعتقاد أن المياه هي ناقلة للجراثيم ومسبّبة للأمراض؛ وتاليًا هي قاتلة، فلُعِنت المياه وهُجرت الحمامات العامة نهائيًا.

لم يكره الأوروبيون المياه؛ لأنّهم وسخون، بل لأنهم جهلوا مكوناتها وقيمتها، واعتبروها سبب انتشار الأوبئة، وتفاقم الخوف من المياه والاغتسال وصولًا إلى كابوس القرن الرابع عشر وظهور الطاعون الأسود أو الموت الأسود عام ١٣٤٧، فلقي حوالي ثلث سكان أوروبا حتفهم، وساد “الرهاب” من المياه والاستحمام.

يقال إنه كان بإمكانك أن تشمّ رائحة الموت أينما كان، ولم يكن هناك مكان حتى للوقوف، فكانت الطرقات الخلّابة النظيفة التي نعرفها اليوم تملؤها الجثث وفضلات البشر وأمعاء الحيوانات والمواشي والدماء!

الرهاب لم يكن رهابًا من السوائل، بل من الماء حصرًا. والملك الفرنسي الذي سُمي “بالملك الشمس” لويس الرابع عشر أعظم ملوك فرنسا استحمّ مرّتين خلال حكمه الذي دام 72 عامًا!

نعم يا سادة، إنّ باني فرساي العظيمة ونوافيرها الخالدة كان يخاف المياه!

ولكن، كما قلنا، لم يكن الخوف من السوائل، بل من المياه حصرًا، وخلافًا للشائعات التي صبغته بشدة الوسخ وعدم الاستحمام بالمياه إلا لمرّتين وبأمر طبي، فالحقيقة أنه كان “يستحم “بانتظام، لكن عن طريق أقمشة مُبلّلة بالكحول والعطور، صباحًا ومساءً. وكان يُعرف هذا النوع من التنظيف آنذاك باسم “التنظيف أو الحمام الجاف”. وكان يُغَيَّر ملابسه عدة مرات لتصل في اليوم الواحد إلى خمس مرات، ولم يكن يرتدي سوى القمصان البيضاء.

أمّا الملك هنري الرابع، فكان معروفًا برائحة جسده الكريهة، ويهمل نظافته الشخصية، ونادرًا ما استحم حتى أنّ زوجته ماريا كانت تشتكي من رائحته، ووصفته بأنّه “يفوح منه العفن”، خصوصًا حين يقضي وقتًا طويلاً في المعارك والسفر.

عاد الاهتمام بالجسد والنظافة في عصر النهضة بدءًا من القرن الخامس عشر، ولكن رُكِّز على العطور أكثر من النظافة الفعلية.

كان القرن التاسع عشر، عصر لويس باستور بامتياز، قرن الثورة العلمية والصناعية والتعمق في علم الأحياء، واكتشاف الفيروسات والجراثيم وعلمها ومسبباتها، والتطعيم ولقاحات الجمرة الخبيثة وداء الكلب والتخمر والبسترة وتعقيم الأدوات الطبية!

“فعادت الثقة بالمياه “وعادت المياه إلى مجاريها” وانتشرت شبكات المياه، وأضحى الاستحمام عادةً يومية لحياة صحّية.

تجدر الإشارة إلى أنّ القبائل العربيّة كانت حتى في عصر الجاهلية تولي النظافة الشخصية أهمية كبرى، حيث كانوا يستحمون في الأنهار والعيون، وفي أثناء الترحال حين توجد المياه، وكانت العطور والطيب جزءًا أساسيًا من العناية الشخصية. أما في العصر الإسلامي فأصبح الاستحمام جزءًا أساسيًا من الطقوس الدينية، وانتشرت الحمامات في المدن الكبرى كدمشق وبغداد والقاهرة. وذاع صيت الحمامات التركية، وتطوّرت جدًّا لتصبح مرفقًا حضاريًا واجتماعيًا، واستعمل فيها الصابون والعطور بوفرة.