لبنانيات >أخبار لبنانية
برّاك يعود برسالة حازمة... فهل تترجم الدولة مواقفها إلى خطوات عملية؟
برّاك يعود برسالة حازمة... فهل تترجم الدولة مواقفها إلى خطوات عملية؟ ‎الاثنين 21 07 2025 08:13
برّاك يعود برسالة حازمة... فهل تترجم الدولة مواقفها إلى خطوات عملية؟

جنوبيات

تتطوّر المشهدية اللّبنانية المتعلقة بملف حصرية السلاح بوتيرة متسارعة، مع حلول الزيارة الثالثة للموفد الأميركي توماس برّاك إلى بيروت، في ظل أجواء تشاؤمية وتشكيك غير مسبوقين.
فالمعلومات الأخيرة تشير إلى أن برّاك سيحمل معه «رسالة حازمة وحاسمة» من واشنطن، بعيداً عن الدبلوماسية الممهّدة التي شابتها زياراته السابقة، وأنه لن يأتي بشروط ميسّرة أو ضمانات فورية ملموسة للبنان. هذا التقدّم الجديد في الموقف الأميركي يفرض على الدولة اللبنانية تعميق ردّها الإيجابي، وتحويله بسرعة إلى إجراءات عملية واضحة، لا سيما أن الإرباك السياسي الناجم عن التصريحات المتشدّدة لبعض القوى يخلق ضبابية تضرّ بالمصلحة الوطنية. فلقد شكّل موقف الأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم، برفضه القاطع لأي اقتراح يقضي بنزع سلاح الحزب، مؤشراً بالغ السلبية، ليس لحداثة مضمونه، بل لصدوره مع اقتراب عودة برّاك إلى بيروت، وبعد ساعات من اجتماع ضمّ رئيسَي الجمهورية والمجلس النيابي في بعبدا من دون إشراك رئيس الحكومة. وقد عكس هذا التوتر عمق الخلاف حول المسار الحكومي التفاوضي، وأكد الحاجة الماسّة إلى «رد لبناني موحّد» يتجاوز الحسابات الحزبية الضيقة. فالرسالة الموحّدة للدولة يجب أن تأتي من قمة هرمها الثلاثي، لا أن تُقسّم بين من يستنكرون مواقف الحزب ويطالبون بضمانات أميركية، ومن يعلنون رفضهم لِمَسّ أي سلاح غير شرعي.
في هذا الإطار، لا بدّ من إخراج الحوار الوطني من عزلته التقليدية، ليضمّ إلى طاولة النقاش مجلس الوزراء ومجلس النواب، تحت سقف منضبط بمرجعية دستورية واضحة. فالحاجة اليوم تقتضي عرض رد لبناني واضح، ومتفق عليه بين الرؤساء الثلاثة والهيئات الدستورية، على برّاك بصيغته النهائية التي تتضمن مطالبة الأميركيين بضمانات حقيقية لانسحاب إسرائيل الكامل من الجنوب، ووقف خروقاتها، وتحرير الأسرى اللبنانيين، وإعادة الإعمار، إلى جانب تحديد جدول زمني لتسليم السلاح غير الشرعي إلى الدولة، من دون افتئاتٍ على أي طائفة أو حزب.
وإن كان ثمة تلميحات إلى أن واشنطن تطلب «روزنامة» لعملية الحصر والتسليم بين أوائل الخريف ونهاية العام الحالي، فإن هذه المعلومات تبقى عرضة للتدقيق والمناقشة. لذا، يجب على الوفد اللبناني المفاوض العمل على بلورة مسار مرحلي واضح، يضمن أدواراً رقابية دولية ومحلية، تحول دون تحوّل الجدول الزمني لدى أي كان إلى ذريعة للتأجيل والمماطلة. فالرسالة الأميركية الحاسمة تدعو إلى إتمام بنود اتفاق وقف إطلاق النار «وفق التفسير والرؤية التي تنقلها واشنطن»، كما ذكرت بعض المصادر، وهو ما يستدعي من الجانب اللبناني الحرص على إرفاق الردّ بمطالبة الأميركي لضمانات واضحة وجدية لوقف الخروقات، قبل أي التزامات يضمنها المجتمع الدولي، لا سيما أننا اعتدنا على انتهاك إسرائيل لقرارات الشرعية الدولية منذ أمد بعيد.
ومن زاوية متعددة الأوجه، تمرّ استراتيجية حصرية السلاح بخطين متوازيين: خطّ داخلي يُعنى بتفعيل دور الجيش والقوى الأمنية في كل المناطق، وتعزيز قدراتها عبر تحديث المعدات وبثّ عناصر احتياطية جديدة، وخطّ خارجي يركّز على الضغط الدبلوماسي تجاه إسرائيل عبر الأمم المتحدة والقرار 1701 واتفاق وقف إطلاق النار، بما يستدعي دفع الولايات المتحدة وأوروبا إلى تقديم دعم مالي وتقني يساعد في بناء مؤسسة قوات مسلحة قادرة على ملء الفراغ الذي يتركه السلاح غير الشرعي. وهذا التكامل بين الداخل والخارج يُعتبر حجر الزاوية لأي نجاح في ترجمة الموقف الإيجابي إلى واقع ملموس، لا سيما في ظل الحاجة الماسة لاستعادة ثقة المانحين والمستثمرين بلبنان المنكوب اقتصادياً.
وبالتالي، فإن إدراك الدولة اللبنانية للمخاطر الإقليمية القائمة، خاصة تداعيات الأزمة السورية على الحدود الشرقية، يستدعي عدم الركون إلى مقاربة أمنية ضيقة، بل توسيع أطر التشاور لتشمل دول الجوار الفاعلة والمجتمع الدولي، بهدف تأمين بيئة إقليمية أكثر استقراراً. ومن المعروف أن أي اتفاقا جديدا على ترتيبات وقف إطلاق النار مشروط بوجود ترتيبات عملية تنقل بنود الاتفاق إلى واقع ملموس، وهو ما ألمح إليه مقرّبون من دوائر السلطة العليا في بيروت. لذا فإن النقاش مع الموفد الأميركي يجب أن يتركّز حتماً على كيفية التنسيق بين تنفيذ بنود اتفاق وقف إطلاق النار من قبل لبنان وإسرائيل معاً، وعلى آليات المراقبة المشتركة، وعلى ضوابط واضحة للجدول الزمني.
وبينما تُثمّن الدولة اللبنانية بقاء خيار الحوار مفتوحاً مع برّاك ومواصلة المفاوضات وجولات التفاهم، فإنها تدرك في الوقت ذاته أن الأوان قد لا يسعف في حال تكرار أسلوب «المماطلة والمراوغة». فالتسوية الشاملة لملف السلاح لا تكتمل إلا بفرضية أن الرد اللبناني ليس شرطياً فقط بقبول الورقة الأميركية، بل يتعدّاه إلى قرار حكومي صريح يصدر عن مجلس الوزراء مستقبلاً، يُعلن فيه اعتماد مهلة زمنية معقولة لا تحتمل الإطالة، ويُحدّد أولى الخطوات العملية: بدء الحصر الفعلي للسلاح غير المرخص، مع الشروع في إنشاء آلية تنفيذية برئاسة رئيس الحكومة وعضوية ممثلين عن المجلس النيابي والرؤساء الثلاثة والقوى الأمنية.
ولا يغيب عن المشهد أيضاً البُعد الشعبي؛ فإرادة غالبية اللبنانيين التي عبّرت عن نفاد صبرها من حالة السلاح المتفلّت والتداخل بين القرار السياسي والسلاح «الموازي» تشكّل قوة دفع إضافية يجب أن تستثمرها الدولة في إشراك المجتمع المدني والهيئات المهنية والمرجعيات الروحية في دعم حصرية السلاح. وهذا النشاط الشعبي يمكن أن يُترجَم إلى ضغوط على النواب والقوى السياسية لتسهيل المواقف الإيجابية في البرلمان، ولخلق قاعدة وطنية عريضة تُعزز أي اتفاق سياسي.
ختاماً، تشكّل الزيارة الثالثة لبرّاك فرصة حاسمة لإعادة تعويم سلطة الدولة وتثبيت «حصرية السلاح» ضمن رؤية وطنية شاملة. وعلى الرغم من الأجواء المتشائمة التي تحيط بالمفاوضات حالياً، فإن الثابت هو أن الموقف الإيجابي للدولة اللبنانية تجاه ورقة برّاك، وإن كان بحاجة إلى ترجمة عملية فورية، لا يزال يُمثّل السبيل الوحيد لإنقاذ لبنان من منطق الكانتونات المسلحة، ولبناء دولة القانون والمؤسسات. فإذا تحقّق ذلك ضمن إطار زمني معقول وضمانات دولية راسخة، فإن لبنان سيخطو خطوة نوعية نحو استعادة سيادته الكاملة، وسيفتح صفحة جديدة في تاريخه، ينهض فيها كشريك جديّ في النظام الدولي، وقوة ضامنة للاستقرار في منطقة مضطربة.

المصدر : اللواء