فِي زُقاقِ الصَّنَائِعِ، حَيْثُ الدُّرُوبُ تَلْتَفُّ،
يَقِفُ بَيْتُنَا، شَاهِدًا عَلَى سَنَوَاتٍ مَضَتْ،
جُدْرَانُهُ تَحْمِلُ وَقَعَ خُطُواتِ جَدِّي،
ذَاكَ الرَّجُلُ الَّذِي غَرَسَ فِينَا مَعْنَى الصَّبْرِ،
وَعَلَى فَمِهِ ابْتِسَامَةٌ لَا تُفَارِقُهُ رَغْمَ الأَعْوَامِ.
جَدَّتِي، بِرِقَّةِ يَدِهَا، تَعُدُّ القَهْوَةَ عَلَى النَّارِ،
تَسْرُدُ لَنَا قِصَصًا عَنْ أَيَّامِ الطُّفُولَةِ،
عَنْ شِتَاءِ بَيْرُوتَ حِينَ يُعَانِقُ البَرْدُ شُرُفَاتِنَا،
وَعَنْ رَائِحَةِ الخُبْزِ الطَّازَجِ الَّتِي تَمْلَأُ الهَوَاءَ،
تَجْعَلُنَا نَشْعُرُ بِأَنَّ الدِّفْءَ فِي البَيْتِ لَيْسَ فَقَطْ نَارَ الْمَوْقِدِ.
وَالِدِي كَانَ يَعُودُ مَسَاءً، مُثْقَلًا بِعِبْءِ العَمَلِ،
لَكِنّ صَوْتَهُ كَانَ كَالنَّسِيمِ فِي أَوْقَاتِ الغُرُوبِ،
يَجْمَعُنَا حَوْلَ الطَّاوِلَةِ، نَسْمَعُ حَدِيثَهُ عَنِ الغَدِ،
أَمَّا أُمِّي، فَكَانَتْ هِيَ البَلْسَمَ لِكُلِّ جُرُوحِنَا،
تَطْوِي وَجَعَ الأَيَّامِ بِعِنَاقِهَا الطَّوِيلِ.
كُنَّا عَشرَةَ إِخْوَةٍ، نَرْكُضُ بَيْنَ الغُرَفِ وَالأَزِقَّةِ،
نَلْعَبُ تَحْتَ ظِلَالِ الجُدْرَانِ الَّتِي تَشْهَدُ ضَحَكَاتِنَا،
وَكَانَ رِفَاقُ الحَيِّ جُزْءًا مِنْ قِصَّتِنَا،
نَصْنَعُ مِنَ الحِجَارَةِ أَلْعَابًا،
وَنَتَشَارَكُ السُّرُورَ فِي مَسَاءَاتٍ لَا تُنْسَى.
حِينَ أَعُودُ فِي الخَيَالِ إِلَى ذَلِكَ البَيْتِ،
أَشُمُّ عَبِيرَ الزُّهُورِ عَلَى شُرُفَتِهِ،
وَأَسْمَعُ صَوْتَ الرِّيحِ يَعْزِفُ عَلَى شَبَابِيكِهِ،
أُدْرِكُ أَنَّ الذِّكْرَيَاتِ هُنَاكَ،
تَعِيشُ بَيْنَ كُلِّ حَجَرٍ وَكُلِّ زَاوِيَةٍ،
تَظَلُّ تَحْكِي قِصَّةَ بَيْتِنَا،
الَّذِي لَمْ يَكُنْ فَقَطْ مَسْكَنًا،
بَلْ وَطَنًا صَغِيرًا،
فِي قَلْبِ بَيْرُوتَ المَحْرُوسَةِ.
القاضي م جمال الحلو