في 28 تموز/يوليو 2025 عُقد مُؤتمر وزاري في مقرّ الأُمم المُتحدة بمدينة نيويورك الأميركية، خُصّص لمُناقشة مسألة تنفيذ مبدأ "حلّ الدولتين" بين فلسطين و"إسرائيل".
جاء المُؤتمر برئاسة سعودية وفرنسية، وخلاله أعلن وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو أنّه "لا بديل عن حلّ الدولتين للإسرائيليين والفلسطينيين"، داعياً إلى "اتخاذ تدابير ملموسة، من أجل الحفاظ على إمكانية قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة".
من جانبه، قال وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان: "إنّ المملكة العربية السعودية تُؤمن بأنّ تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة يبدأ بإنصاف الشعب الفلسطيني وتمكينه من نيل حقوقه المشروعة".
بدوره، اعتبر رئيس الوزراء الفلسطيني الدكتور محمد مصطفى أنّ المُؤتمر يحمل وعداً للشعب الفلسطيني بإنهاء الظلم الواقع عليه"، داعياً إلى "نشر قوات إقليمية ودولية لحماية الفلسطينيين".
في الواقع، يُمثّل هذا المُؤتمر محطة جديدة في مسار تكريس مبدأ "حلّ الدولتين"، الذي طالما كان موضوعاً لنقاشات حادّة مُنذ عقود، من دون أن يتحقق فعلياً على الأرض، بفعل عراقيل مُتعدّدة.
فمُنذ 77 عاماً، يبرز مصطلح "حلّ الدولتين" كأحد المحاور الرئيسة في ملفّ القضية الفلسطينية، التي تمثّل جرحاً مفتوحاً في قلب الشرق الأوسط منذ العام 1948، تاريخ إعلان قيام ما سُمّي بـ"دولة إسرائيل" على أرض فلسطين.
ولـ"حلّ الدولتين" جذورٌ تاريخية ومحطّات سياسية ودبلوماسية مُتعدّدة.
فما هو هذا الحل؟ وما أبرز محطاته وشروطه؟ وكيف تطوّر خلال العقود الماضية؟
"حلّ الدولتين".. البداية من القرار 181
يقوم مفهوم "حلّ الدولتين" على إقامة دولتين مستقلتين: دولة فلسطين ودولة "إسرائيل"، تعيشان جنباً إلى جنب في سلامٍ وأمان، على أرض فلسطين التاريخية.
يقول الباحث السياسي وعضو المجلسين الوطني والمركزي الفلسطيني هيثم زعيتر، لموقع "التلفزيون العربي": "إنّ أول طرح رسمي لهذا المفهوم جاء في القرار 181، الصادر عن الجمعية العامة للأُمم المُتحدة، بتاريخ 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947، والذي نصّ على إقامة دولتين، فلسطينية عربية على 45% من مساحة فلسطين، ويهودية إسرائيلية على 54% منها، مع وضع القدس تحت إدارة دولية.
لكن في الواقع، شكّل القرار 181 بداية فعلية لعمليات تهجير الفلسطينيين.
آنذاك، كان من المُتوقع أن يبلغ عدد سكان الدولة اليهودية نحو مليون نسمة، ما دفع العصابات الصهيونية إلى تنفيذ عمليات تطهير عرقي واسعة، بهدف التوسّع والسيطرة على مساحات إضافية.
نتيجة لذلك، فرضت "إسرائيل" سيطرتها على 77% من أرض فلسطين، أي أكثر بكثير من المساحة التي خصّصها القرار لها".
يُشير زعيتر إلى أنّ "الفلسطينيين والدول العربية رفضوا القرار 181 رفضاً قاطعاً، واستمرت عمليات التهجير حتى إعلان "دولة إسرائيل" في 14 أيار/مايو 1948، فيما أُعلن يوم 15 مايو يوم "نكبة فلسطين.
وفي 5 يونيو/حزيران 1967، اندلعت حربٌ استمرت 6 أيام بين "إسرائيل" و3 دول عربية: مصر وسوريا والأردن، انتهت باحتلال "إسرائيل" لكل من سيناء والجولان والضفة الغربية وقطاع غزة".
يقول زعيتر: "بعد تلك الحرب، أحكمت "إسرائيل" سيطرتها على كامل الأراضي الفلسطينية، غير أنّ المُجتمع الدولي بدأ يعترف بالدولة الفلسطينية على حدود 4 حزيران/يونيو 1967، بما يشمل الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية كعاصمة لها، أي ما يُعادل 22% فقط من أرض فلسطين التاريخية.
جاء القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن، بتاريخ 22 تشرين الثاني/نوفمبر 1967، ليُؤكّد هذا التوجّه، إذ دعا "إسرائيل" إلى الانسحاب من الأراضي التي احتلتها، وشدّد على حقّ كل دولة في المنطقة بالعيش بسلامٍ داخل حدود آمنة ومُعترف بها.
لكنّ، "إسرائيل" لم تُنفذ القرار، مُتذرعة بأنّ مشروعها يقوم على إقامة "دولة يهودية" على كامل أرض فلسطين، وأنّ القدس المُوحّدة يجب أن تكون عاصمةً لها.
تتمثل أسس "حلّ الدولتين" بإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، على حدود 4 حزيران/يونيو 1967، تشمل الضفة الغربية وقطاع غزة، وتكون القدس الشرقية عاصمةً لها.
بالمُقابل، يُفترض ضمان أمن "إسرائيل" كدولة ذات سيادة مُعترف بها دولياً، مع إيجاد حلّ عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين، وفق القرار 194 الصادر في 11 كانون الأول/ديسمبر 1948.
في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 1988، أعلن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات من الجزائر قيام الدولة الفلسطينية، مع الاعتراف بـ"إسرائيل"، وبدء مرحلة مُفاوضات بدأت في مدريد في العام 1991، وصولاً إلى توقيع "اتفاق أوسلو 1" في 13 أيلول/سبتمبر 1993، برعاية أميركية.
دخل الرئيس عرفات إلى فلسطين في 1 تموز/يوليو 1994، وفي العام التالي، وُقّع "اتفاق أوسلو 2"، بتاريخ 13 أيلول/سبتمبر 1995، ونصّ على تقسيم الضفة الغربية إلى:
المنطقة (أ): تحت السيطرة الفلسطينية الكاملة مدنياً وأمنياً.
المنطقة (ب): تحت إدارة فلسطينية، مع سيطرة أمنية إسرائيلية.
المنطقة (ج): تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة.
نصّ الاتفاق على فترة انتقالية مُدّتها 5 سنوات لمعالجة قضايا رئيسة مثل القدس، الأمن، الحدود، المُستوطنات، واللاجئين".
لكن اليمين المُتطرّف في "إسرائيل" - كما يُوضح زعيتر لموقع "التلفزيون العربي" - "أقدم على اغتيال رئيس الوزراء إسحاق رابين في 4 تشرين الثاني/نوفمبر 1995، لتبدأ بعدها مرحلة الانقضاض على الاتفاق ومنع قيام دولة فلسطينية ذات سيادة.
من كامب ديفيد إلى الانتفاضة الثانية
في 25 تموز/يوليو 2000، عُقدت "قمة كامب ديفيد" برعاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون، وجمعت الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود باراك.
خلال القمة، تهرّبت "إسرائيل" من تنفيذ حلّ الدولتين، وعرضت إقامة دولة فلسطينية منقوصة السيادة، مع استمرار السيطرة الإسرائيلية على الأمن والحدود والقدس، وشطب حق عودة اللاجئين الفلسطينيين.
رفض عرفات هذا الطرح، إذ لم يُلبِّ الحدّ الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية، خصوصاً ما يتعلّق بالقدس وقضية اللاجئين.
أعقب ذلك اندلاع "الانتفاضة الثانية" أو "انتفاضة الأقصى" في 28 أيلول/سبتمبر 2000، بعد اقتحام وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون، باحات المسجد الأقصى بحماية أمنية مُشدّدة، في خطوة استفزازية فجّرت احتجاجات عارمة في القدس وأراضي الضفة الغربية وقطاع غزة.
أصبحت الانتفاضة مشهداً رمزياً للمُقاومة الفلسطينية، وبرزت صورة الطفل محمد الدرّة، الذي استشهد برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي أمام والده وعدسات الكاميرات، كأحد أبرز رموزها.
خارطة الطريق.. 3 مراحل لم تكتمل
بين العامين 2002 و2003، طُرحت "خارطة الطريق" من قبل اللجنة الرباعية الدولية المعنية بالشرق الأوسط، والتي ضمّت الولايات المُتحدة، والاتحاد الأوروبي، وروسيا، والأُمم المُتحدة.
وفي 24 حزيران/يونيو 2002، صرّح الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش أنّه "من غير المقبول أن يعيش الفلسطينيون في بؤس واحتلال، ومن غير المقبول أن يعيش الإسرائيليون في رعب"، داعياً إلى قيام دولتين تعيشان جنباً إلى جنب في سلامٍ وأمن.
عملياً، نصّت "خارطة الطريق" على 3 مراحل أساسية:
- المرحلة الأولى (2002 - أيار/مايو 2003): إنهاء العنف وبناء المُؤسسات الفلسطينية.
- المرحلة الثانية (يونيو - كانون الأول/ديسمبر 2003): إقامة دولة فلسطينية بحدود مُؤقتة، والمُصادقة على دستور ديمُقراطي، وإنشاء منصب رئيس وزراء فلسطيني، وعقد مُؤتمر دولي لدعم الاقتصاد.
- المرحلة الثالثة (2004-2005): التوصّل إلى تسوية نهائية تُنهي الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وتؤسّس لعلاقات عربية - إسرائيلية طبيعية ضمن سلام شامل".
لكن "إسرائيل" - كما يُشير زعيتر - "عمدت إلى عرقلة تنفيذ هذه الخطوات، من خلال تسريع وتيرة الاستيطان، وشنّ الاعتداءات المُتكررة على الأراضي الفلسطينية، ما أدّى إلى تجميد المُفاوضات مُنذ العام 2014، خاصة مع عودة بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية، وتكريس الحصار المفروض على قطاع غزة.
وفي 28 آذار/مارس 2002، تبنّت القمة العربية في بيروت "مُبادرة السلام العربية"، التي نصّت على انسحاب "إسرائيل" من الأراضي المُحتلة في العام 1967، بما فيها الجولان السوري، مُقابل السلام وإقامة الدولة الفلسطينية".
"لكن المُبادرة قوبلت برفض إسرائيلي وتصعيدٍ في الاعتداءات، والحصار والاستيطان" - كما يقول الباحث زعيتر.
الموقف الفلسطيني الرسمي
يُوضح زعيتر أن "القيادة الفلسطينية حرصت، بشكل دائم، على الالتزام بما تم الاتفاق عليه في مسارات التفاوض، مع الاعتراف بـ"إسرائيل"، والسعي إلى تجسيد قيام دولة فلسطينية مُستقلة على حدود 4 حزيران/يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
في أيلول/سبتمبر 2011، توجّه الرئيس محمود عباس إلى مجلس الأمن الدولي بطلب رفع عضوية فلسطين إلى دولة كاملة العضوية، لكن تأجل تقديم الطلب، مع عدم تأمين العدد الكافي من الأصوات، مع تلويح الولايات المُتحدة باستخدام حقّ النقض "الفيتو".
وفي العام التالي، نجح عباس في انتزاع اعتراف الجمعية العامة للأُمم المُتحدة بدولة فلسطين بصفة "مُراقب"، وذلك في دورتها الـ67، بتاريخ 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2012، بتأييد 138 دولة.
وقبل ذلك، كان الرئيس الراحل ياسر عرفات قد انتزع مقعداً لـ"منظمة التحرير الفلسطينية" كمُراقب أيضاً، إثر خطابه التاريخي في الأُمم المُتحدة، بتاريخ 13 تشرين الثاني/نوفمبر 1974، وكانت المُنظمة آنذاك تُمثّل 138 دولة.
واليوم، ارتفع عدد الدول التي تعترف بدولة فلسطين إلى 149، بعد انضمام إسبانيا، والنرويج، وأيرلندا إلى قائمة الدول المُعترفة، في أيار/مايو 2024.
كما أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بتاريخ 24 تموز/يوليو 2025، نية بلاده الاعتراف الرسمي بفلسطين خلال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأُمم المُتحدة، المُقرّرة في النصف الثاني من أيلول/سبتمبر المقبل، تمهيداً لعقد مُؤتمر دولي للسلام".
العقبات أمام قيام الدولة الفلسطينية
رغم هذا التقدّم، ما زالت أبرز العقبات تتجلّى في السياسات الإسرائيلية - كما يقول زعيتر - "من خلال حرب الإبادة ضد قطاع غزة، والاعتداءات في الضفة الغربية والقدس، وفرض قوانين تستهدف الفلسطينيين، منها حظر عمل وكالة "الأونروا" في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، بدءاً من نهاية كانون الثاني/يناير 2025.
كما أنّ إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب اعترفت بالقدس المُوحّدة عاصمةً لـ"إسرائيل" في 6 كانون الأول/ديسمبر 2017، وتبعتها بإعلان "صفقة القرن" في 28 كانون الثاني/يناير 2020، ما رفضته القيادة الفلسطينية رفضاً قاطعاً.
وفي 9 تموز/يوليو 2004، أصدرت "محكمة العدل الدولية" في لاهاي رأياً استشارياً اعتبر بناء الجدار العازل في الضفة الغربية غير قانوني، وطالبت بإزالته.
وطلبت فلسطين من الأُمم المُتحدة فتوى قانونية حول التبعات القانونية للمُمارسات الإسرائيلية، خصوصاً في القدس الشرقية، وأُحيل الملف إلى "محكمة العدل الدولية"، التي أصدرت رأياً استشارياً في 19 تموز/يوليو 2024، أكدت فيه على حقّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم على حدود 4 حزيران/يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، مع إنهاء الاحتلال وضمان التواصل الجغرافي للأراضي الفلسطينية.
لكن "إسرائيل" تواصل سياساتها العنصرية، مُستندة إلى "قانون القومية" الذي صدر في 19 تموز/يوليو 2018، والذي يُقصي الفلسطينيين داخل "إسرائيل" من المُواطنة المُتساوية، ويُكرّس الهوية اليهودية للدولة.
كما تستمر "إسرائيل" في قرصنة أموال السلطة الفلسطينية عبر حجز عائدات ضرائب المقاصة، والتي تتجاوز 3 مليارات دولار أميركي".
اعتراف أُممي متزايد.. فهل ينجح الحل؟
يرى الباحث هيثم زعيتر أنّ "اعتراف أكثر من 75% من الدول الأعضاء في الأُمم المُتحدة، وعددها 193 دولة، بدولة فلسطين، يُعدّ خطوة شجاعة، تنسجم مع القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية.
ويُعتبر هذا المسار مدخلاً حقيقياً نحو إرساء سلامٍ عادل وشامل في المنطقة، يضع حدّاً لمأساة اللاجئين الفلسطينيين المُستمرة منذ 77 عاماً، في ظلّ أطول احتلال عرفه التاريخ الحديث.
وعليه، فإن "حلّ الدولتين" الذي وُلد كصيغة تسوية مُؤقتة في لحظة دولية مُلائمة، يُواجه اليوم اختبار بقائه في ظل تغيّر المُعادلات الجيوسياسية، وانسداد الأفق السياسي، وتآكل الثقة بين الأطراف".
...لكن بينما تُواصل بعض القوى الدولية التلويح بهذا الحل كمرجعية خطابية، تُمعن "إسرائيل" في فرض وقائع ميدانية تُجهِز على ما تبقى من الأرض والحقوق الفلسطينية، من تسارع الاستيطان إلى حرب الإبادة في غزة".