يا وطني…
يا غابةَ ياسمينٍ في صدري،
يا مئذنةَ دعاء،
وبيتا من دفء القمر،
وصفحةَ ماءٍ من طفولتي…
***
من شرفات القلب،
ومن ظلال الروح،
أمدُّ يدي عبر الرياح،
أضمّ ترابك إلى وجنتي،
وأحمل أنفاسك في صدري،
كما يحمل العاشقُ صورة حبيبته،
في حافظة القلب والعيون…
***
من بُعد المنافي…
أزجي إليك السلام،
من دمي الدافق،
ومن نَفَس الغمام،
ومن دموع الغيم،
حين تنوح ...
على غصونٍ جُرِّدت من الظلال…
***
أهديك وردة العشاق،
مضمخةً بعبق الصبر،
مبللةً بندى الأرواح التي رحلت،
وما زالت تحرسك،
في الليل…
والنهار…
***
لم تزل يا وطني،
عبر المدى،
أحجيةً للناس،
علّمها الوحيُ لغةَ الحق،
لتكون بشارةً لخير الأنام…
***
بقيتَ أيقونةً لا تنطفئ،
يحجُّ إليها الحجيجُ ..
من دروب الفقد،
على وقعِ القصفِ…
والطبول،
وفي أصداء التكبير…
والأنين،
على الدوام…
***
وطني المصلوبُ ..
على أسوار الحصار،
المسبيُّ في عيون أطفال غزة،
ليس لي سواك،
ولو خُيّرت في هواك،
ما اخترتُ إلاك…
***
أنت الهوى،
أنت الحياة،
أنت المنى،
إليك أُسرِع الخطى،
إليك العود،
وإن طال الغياب…
***
فيك يطيب العيش إذا عاد،
وفيك خير المقام،
فيك تُسطَّر الأشعار،
ويُولد من رمادك أجمل المقال،
وحتى الجراح،
تتحوّل أناشيدَ للنور…
والحرية…
***
وطني الجريح،
يا وجع قلبي، ويا زهر حلمي،
من البعيد…
إليك أزجي السلام،
سلامَ من لم ينحنِ،
وسلامَ من لم ينسَ…
***
وإني لأعلم…
أن القهرَ وإن طال،
والليلَ وإن اشتدّ،
سيُهزَم على جدار صبرك،
وتضحياتك، ونضالك…
***
سأعود إليك يوماً،
أحمل راية النصر،
وأمشي على ترابك الطاهر،
كما يمشي الفجر،
على نثار الندى…
تحليل أدبي لنص "وطني الحبيب... جرحك نبض قلبي" بقلم الشاعر والناقد عادل جوده:
النص الذي كتبه الدكتور عبدالرحيم جاموس هو قصيدة نثرية بليغة تتناول موضوع حب الوطن والفداء من أجله مع التركيز على الألم والأمل.
يستخدم الكاتب لغة شعرية غنية بالصور والتشبيهات التي تعبر عن مشاعر عميقة تجاه الوطن الجريح.
أهم السمات الأدبية:
- الرمزية والتشبيه:
يستخدم الكاتب الرموز بشكل كثيف ليجسد مشاعره.
فالوطن ليس مجرد أرض بل هو "غابة ياسمين في صدري" و"مئذنة دعاء" و"بيت من دفء القمر".
هذه التشبيهات ترفع الوطن من كونه مكاناً مادياً إلى كيان روحي مقدس.
- المفارقة:
يمزج الكاتب بين الألم والأمل في مفارقة مؤثرة.
فرغم أن الوطن "جريح" و"مصلوب على أسوار الحصار" إلا أنه في الوقت نفسه "أيقونة لا تنطفئ" و"بشارة لخير الأنام".
هذه المفارقة تزيد من عمق النص وتأثيره.
- الخطاب الوجداني:
النص مكتوب بأسلوب المخاطبة المباشرة للوطن ("يا وطني...").
هذا الأسلوب يعزز من المشاعر الشخصية ويجعل القارئ يشعر وكأنه يشارك الكاتب في حواره الوجداني مع وطنه.
- التكثيف اللغوي:
النص مختصر ومكثف فكل جملة فيه تحمل معنى قوياً.
على سبيل المثال عبارة "وطني المصلوب.. المسبيُّ في عيون أطفال غزة"
تلخص الكثير من الألم والمعاناة في كلمات قليلة ومؤثرة.
- التفاؤل والأمل:
على الرغم من كل الجراح ينتهي النص برسالة أمل قوية حيث يعلن الكاتب عن عودته "يوماً" حاملاً "راية النصر" وأن القهر والليل "سيُهزم" على جدار الصبر والنضال. هذه النهاية تمنح النص طابعاً إيجابياً ومليئاً بالأمل في مستقبل أفضل.
باختصار:
النص هو تحفة أدبية تجمع بين الرومانسية والواقعية حيث يعبر عن حب عميق للوطن مع إقرار بألمه ولكنه في الوقت نفسه يزرع بذور الأمل في قلب القارئ...
قراءة وجدانية لنص "وطني الحبيب... جرحك نبض قلبي" بقلم الشاعرة والأدبية والناقدة رانية فؤاد مرجية:
يأتي نص الدكتور عبد الرحيم جاموس كصرخة حبّ ووفاء للوطن، يختلط فيها الجرح بالأمل، والدمع بالزهر، والبعد بالشوق الحارق. النص لا يكتفي بأن يكون خطاباً عاطفياً للوطن، بل يتحول إلى لوحة وجدانية مطرّزة بالرموز، حيث تتعانق فيها صور الطبيعة والروح، في مشهدية تتجاوز حدود اللغة إلى فضاء الذاكرة الجمعية الفلسطينية.
أولاً: بنية النص بين الحنين والمقاومة
النص قائم على ثنائية متكرّرة: الجرح/الأمل، المنفى/العودة، الحصار/الانتصار. منذ السطر الأول، يضعنا الشاعر في حضرة وطن يتحول إلى كائن حيّ، نابض في القلب:
"يا وطني… يا غابة ياسمين في صدري، يا مئذنة دعاء، وبيتاً من دفء القمر…"
هنا تتجسد الأمومة الروحية للوطن، حيث يصبح حضوره بمثابة مأوى، صلاة، ودفء، وهي صور تحيل إلى الحماية والانتماء العميق.
ثانياً: لغة الصور والرموز
يمتاز النص بغنى الصور الشعرية المأخوذة من الطبيعة والروحانية، مما يمنح الخطاب الوطني بعداً جمالياً يتجاوز المباشرة. نجد مثلاً:
- "أضم ترابك إلى وجنتي" - صورة حميمة تحاكي فعل العاشق مع الحبيب.
- "كما يحمل العاشق صورة حبيبته في حافظة القلب والعيون" - تشبيه يذيب المسافة بين الإنسان والأرض.
- "دموع الغيم حين تنوح" - استعارة قوية تُسند الحزن حتى إلى الطبيعة، في وحدة شعورية بين الكون وقضية الوطن.
هذه الصور تكسر القالب التقليدي للقصيدة الوطنية التي قد تعتمد على الشعارات المباشرة، لتدخلنا في حساسية جمالية صوفية تتعامل مع الوطن ككائن أثيري.
ثالثاً: صوت المنفى
في مقاطع النص، يحضر المنفى بوصفه قيداً جسدياً لا يقوى على تقييد الروح. يقول الشاعر:
"من بُعد المنافي… أزجي إليك السلام"
المنفى هنا ليس فقط جغرافياً، بل هو منفى وجودي، حيث يظل الشاعر محاطاً بحدود البعد، لكن صوته يخترق المسافات ليصل إلى الوطن عبر "دمه الدافق" و"نَفَس الغمام".
رابعاً: البعد المقاوم
النص لا يكتفي بالرثاء أو الحنين، بل يُبقي جذوة المقاومة متقدة:
"وإني لأعلم… أن القهر وإن طال… والليل وإن اشتد… سيُهزَم على جدار صبرك وتضحياتك ونضالك"
هذا الإيقاع الإيماني ـ النضالي يضع القارئ أمام وعد مؤكد بالتحرر، فيجعل النص جسراً بين الحزن والفعل، بين الدمع والسلاح.
خامساً: الإيقاع العاطفي
النص يعتمد على التوازي والتكرار لخلق إيقاع وجداني يتماوج بين الهدوء والانفجار العاطفي، مثال ذلك:
- "أنت الهوى، أنت الحياة، أنت المنى" - تكرار يثبت المعنى ويعمّق الإحساس.
- "إليك أسرع الخطى، إليك العود" - إيقاع يشي بالعجلة واللهفة، وكأن العودة قدر محتوم.
سادساً: القيمة الفنية
ما يمنح النص قيمته ليس فقط صدق العاطفة، بل المزج بين الخاص والعام: فالحديث عن "جرح قلبي" يتماهى مع جرح الوطن، وحلم العودة الشخصي يصبح حلماً جمعياً. النص أيضاً يبتعد عن الخطاب النمطي في كثير من القصائد الوطنية، ليقدّم لوحة وجدانية ذات بعد روحي، تتغذى من لغة الطبيعة والدين والإنسان.
خاتمة
"الوطن العاشق… حين يصير الجرح أناشيد للحرية" هو أكثر من قصيدة، هو وثيقة وجدانية تبرهن أن الوطن، مهما نزف، يظل الحلم الأكثر نقاءً والأمل الأكثر ثباتاً. يكتب عبد الرحيم جاموس بمداد القلب، فيجعل من النص نشيداً شخصياً وجماعياً في آن واحد، يليق أن يُحفظ في ذاكرة الأدب الفلسطيني كأحد النصوص التي مزجت الحنين العاطفي بالموقف النضالي، وأثبتت أن الشعر يمكن أن يكون صلاةً وحباً وسلاحاً في الوقت نفسه