كَأَنَّ الزَّمَان قَدْ أَرْهَقَ نَفْسَهُ مِنْ فَرْطِ الدَّوَرَانِ، فَتَعَثَّرَ، ثُمَّ هَوَى. لَمْ يَعُدْ ذَاكَ الزَّمَن الَّذِي كَانَ يُغْرِي الإِنْسَانَ بِأَنْ يُشْرِّعَ صَدْرَهُ لِلرِّيحِ، وَيُعَانِق الأَمَلَ بِيَدَيْنِ مُبَلَّلَتَيْنِ بِعَرَقِ الجِدِّ وَالمُثَابَرَةِ. إِنَّهُ زَمَنٌ تَتَوَالَى فِيهِ الانْكِسَارَاتُ كَمَا تَتَوَالَى الأَمْوَاجُ عَلَى شَاطِئٍ مُرْهَقٍ، لَا يَمْلِكُ مِنْ صَلَابَتِهِ إِلَّا مَا يُبْقِيهِ وَاقِفًا فِي وَجْهِ العَصْفِ.
تَبَدَّلَتِ الوُجُوهُ، وَتَغَيَّرَتِ المَلَامِحُ، وَصَارَتِ القُلُوبُ ـ فِي الغَالِبِ ـ أَثْقَل مِنَ الحِجَارَةِ وَأَبْرَد مِنَ الرُّخَامِ. صَارَتِ المَصْلَحَةُ الفَرْدِيَّةُ دِينًا خَفِيًّا يَعْبُدُ النَّاسُ طُقُوسَهُ بِلَا خُشُوعٍ، وَأَضْحَى الغِشُّ مَهَارَةً، وَالنِّفَاقُ وَسِيلَةً، وَالصِّدْقُ ضَيْفًا عَابِرًا فِي المَجَالِسِ، لَا يُطِيلُ المُكُوثَ.
عَلَى الصَّعِيدِ الإِنْسَانِيِّ، لَمْ يَعُدِ الجَارُ يَسْأَلُ عَنْ جَارِهِ، وَلَا الصَّدِيقُ يَنْتَظِرُ مِنْ صَدِيقِهِ سِوَى مَا يَمْلَأُ يَدَهُ. صَارَتِ العَلَاقَاتُ أَرَقَّ مِنْ خَيْطِ عَنْكَبُوتٍ، تَنْقَطِعُ مَعَ أَوَّلِ هَبَّةِ رِيحٍ.
فِي الأَمْسِ، كَانَ الإِنْسَانُ يَحْيَا لِيَحْمِلَ الآخَرَ مَعَهُ فِي مَرْكبِ الحَيَاةِ، وَاليَوْمَ بَاتَ يَسْعَى لِيَفِرَّ وَحْدَهُ قَبْلَ أَنْ تَغْرَقَ السَّفِينَةُ، غَيْر آَبِهٍ بِمَنْ يَتْرُكُهُمْ يَتَخَبَّطُونَ فِي التَّيَّارِ.
أَمَّا السِّيَاسَةُ، فَقَدِ انْحَدَرَتْ مِنْ فَنِّ إِدَارَةِ الشَّأْنِ العَامِّ إِلَى مَسْرَحٍ هَزْلِيٍّ تَتَقَاطَعُ فِيهِ المَصَالِحُ، وَتَخْتَفِي فِيهِ الحَقِيقَةُ وَرَاءَ سَتَائِرِ الشِّعَارَاتِ. تَحَوَّلَ القَائِدُ مِنْ مُلْهِمٍ لِلشُّعُوبِ إِلَى مُتَلَاعِبٍ بِمَصَائِرِهَا، وَأَمْسَى الوَطَنُ عِنْدَ الكَثِيرِين سِلْعَةً لِلمُسَاوَمَةِ فِي أَسْوَاقِ النُّفُوذِ.
وَفِي الاقْتِصَادِ، اتَّسَعَتِ الفَجْوَةُ بَيْنَ مَنْ يَمْلِكُونَ كُلَّ شَيْءٍ وَمَنْ لَا يَمْلِكُونَ حَتَّى قُوتَ يَوْمِهِمْ. صَارَ الغَنِيُّ أَغْنَى، وَالفَقِيرُ أَفْقَرَ، وَكَأَنَّ قَوَانِين المَالِ كُتِبَتْ لِتَزِيدَ القَابِضِينَ عَلَيْهِ تَمَكُّنًا، وَلِتَتْرُكَ الآخَرِينَ يَلْهَثُونَ خَلْفَ السَّرَابِ.
أَمَّا الاجْتِمَاعُ، فَقَدْ غَابَتْ عَنْ سَاحَتِهِ قِيَمُ التَّضَامُنِ وَالتَّكَافُلِ. صَارَتِ الأُسْرَةُ الوَاحِدَةُ تَنْقَسِمُ إِلَى جُزُرٍ مُتَبَاعِدَةٍ، وَالأَجْيَالُ الجَدِيدَةُ تَعِيشُ فِي عُزْلَةٍ رَقْمِيَّةٍ؛ تَتَوَاصَلُ مَعَ العَالَمِ عَبْرَ الشَّاشَاتِ أَكْثَرَ مِمَّا تَتَوَاصَلُ مَعَ مَنْ يُشَارِكُونَهَا سَقْفَ البَيْتِ.
هَوَى زَمَانُنَا، لَا لِأَنَّ السَّاعَات تَوَقَّفَتْ، بَلْ لِأَنَّ الضَّمَائِرَ نَامَتْ. وَمَا يَجْعَلُ السُّقُوط أَشَدّ مَرَارَة أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سُقُوطًا فِي هَاوِيَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلِ انْحِدَارًا مُتَدَرِّجًا عَلَى جَمِيعِ الصُّعُدِ: الإِنْسَانِيَّة، وَالسِيَاسِيَّة، وَالاقْتِصَادِيَّة، وَالاجْتِمَاعِيَّة.
وَكُلَّمَا حَاوَلْنَا أَنْ نَتَمَسَّكَ بِبَارِقَةِ أَمَلٍ، وَجَدْنَاهَا وَمِيضًا عَابِرًا فِي لَيْلٍ مظلمٍ.
وَمَعَ ذٰلِكَ، فَإِنَّ رُكَامَ هٰذَا الزَّمَن لَا يَخْلُو مِنْ بَقَايَا قُلُوبٍ مَا زَالَتْ تَنْبِضُ بِالخَيْرِ، وَنُفُوسٍ لَمْ تَتَخَلَّ عَنْ إِيمَانِهَا بِأَنَّ شَمْسًا أُخْرَى سَتَشْرُقُ، وَأَنَّ دَوْرَةَ الزَّمَانِ ـ مَهْمَا هَوَتْ ـ سَتَنْهَضُ مِنْ كَبْوَتِهَا. وَلَعَلَّ الأَمَل، فِي زَمَنِ السُّقُوطِ، هُوَ آخِرُ مَا يُمْكِنُ أَنْ نَحْمِلَهُ مَعَنَا وَنَحْنُ نَنْتَظِرُ الفَجْرَ.