يَا أَيُّهَا القَوْمُ، اسْمَعُوا قَصَّةً مِن قَصَصِ الحِكَمِ، وَدَرْسًا مِن دُرَرِ الأَيَّامِ، فَفِيهَا مَفَازَةُ العَقْلِ، وَمَغْنَمُ البَصِيرَةِ، وَبَصِيرَةُ ذَوِي العُقُولِ إِلَى الطُّرُقِ الصَّوَابِ.
إِنَّ الأَمْرَ لا يَسْتَقِيمُ إِلَّا بِالعَمَلِ المَهْذُوبِ، وَلا تَسْلُو السُّبُلُ إِلَّا بِرَشَادِ المَسِيرِ. فَاقْرَؤُوا مَا سَمِعْتُ، وَتَعَلَّمُوا مِنْ قَولِ أَحَدِ الأَجْدَادِ:
«مَا هَكَذَا تُورَدُ الإِبِلُ»
فَهِيَ كَلِمَةٌ مُجْتَزَأَةٌ، تَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا مَغْزًى عَظِيمًا، وَتُبَيِّنُ أَنَّ الطَّرِيقَ إِلَى الغَايَةِ لَا يُسْلَكُ بِالعَجَلَةِ وَالتَّهَوُّرِ، بَلْ بِالحِكْمَةِ وَالرُّشْدِ.
الحِكْمَةُ في لِسانِ العَرَبِ تاجُ التَّجارِبِ، وَعِقدُ القَرائحِ، تُصاغُ مِن لُبِّ الأَيَّامِ، وَتُرصَّعُ بِجَوَاهِرِ المواقفِ، فَتَبقَى على مَرِّ العُصورِ مِصباحًا يَهتَدِي بِهِ التَّائِهُ، وَسِلاحًا يَذُبُّ بِهِ العاقِلُ عن صَوابِهِ.
والمَثَلُ عندَ القَومِ كالسَّيفِ البَتَّارِ، مَضْمُونُهُ قَصيرٌ، وَمَعنَاهُ مُمتَدٌّ في أَفقِ الفِكرِ امتدادَ الضِّياءِ في كَبِدِ النَّهارِ. ومِن بَينِ دُرَرِ الأَمثالِ الَّتي جَرَت مَجرى الماءِ في أفواهِ الرُّواةِ مَثَلٌ خَلَّدَتْهُ واقِعَةٌ بَسيطَةٌ، غيرَ أنَّها أَنبَتَت في تُربَةِ التَّاريخِ عِبرَةً لا تَبلى: «مَا هَكَذَا تُورَدُ الإِبِلُ».
وأصلُهُ – كما روى المِيداني في مجمعِ الأَمثالِ – أنَّ مَالِكَ بْنَ زَيْدٍ أَخا سَعْدِ بْنِ زَيْدٍ خَرَجَ في يَومٍ قائِظٍ بإبِلِهِ، ثمَّ أوكَلَ أمرَها إلى أَخِيهِ سعدٍ لِيُورِدَها الماءَ. فمَضَى بها سَعدٌ حتَّى أَورَدَها مَورِدًا رَدِيئًا ضَحلًا، كَدِرَ المَاءِ، لا يَروِي غُلَّةً، ولا يَبهِجُ ناظِرًا. فَلَمَّا أَقبَلَ بها، رآهُ مالِكٌ فأنشَد: "أَوْرَدَهَا سَعْدٌ وَسَعْدٌ مُشْتَمِلُ
مَا هَكَذَا يَا سَعْدُ تُورَدُ الإِبِلُ"
فطارَت كلمَتُهُ في أَجواءِ العَربِ مثلًا سائرًا، يُضرَبُ لِمَن يَتَصدَّى لِأَمرٍ لا يُحسِنُهُ، أو يَنهَجُ فيهِ نَهجًا أعوَجَ، فيفسُدُ مِن حَيثُ أرادَ الإصلاحَ.
ولَكَم رأَينا في حياتِنا مَن أرادَ المَجدَ فسَلَكَ سُبُلَ التَّهَوُّرِ، أو ابتَغَى الإِحسانَ فاختارَ لهُ أَوهَنَ الطُّرُقِ، فخَسِرَ المَورِدَ والمَورودَ معًا. فالعَقلُ الرَّاجِحُ يَعلَمُ أنَّ إِصابةَ الطَّريقِ أَولَى مِن كَثرةِ الخُطَى، وأنَّ حُسنَ التَّدبيرِ أَوفى مِن ضَجيجِ العَمَلِ.
فلتكن هذه العِبرةُ سِراجًا لكلِّ ساعٍ إلى غايةٍ شريفةٍ: أن يَبلُغَها على أَهدَى السُّبُلِ وأقومِ المَناهِجِ، وإلَّا فقيلَ له – كما قيلَ لسَعدٍ –: «مَا هَكَذَا تُورَدُ الإِبِلُ».