مشهد الجفاف في بحيرة القرعون التي فقدت 60% من مخزونها المائي في سنة واحدة، وفق سجلات المصلحة الوطنية لنهر الليطاني، يرسم واقعاً مأساوياً لم تشهده منذ عام 1932. هذا الانحسار غير المسبوق للمياه لا يمثل مجرد أزمة مائية، بل كارثة حيوية وكهربائية وبيئية.
ولا تكمن الخطورة في الجفاف وحده، بل في غياب سياسات مائية وزراعية واضحة، تغيب عنها إدارة السدود والبرك المائية وآليات الترشيد، لتصبح الكارثة الكبرى القادمة محققة: تراجع الإنتاج الزراعي، توقف توليد الطاقة منذ آب الماضي، عزوف المزارعين عن زراعة حقولهم لشح المياه في الآبار الارتوازية، وتصاعد التلوث في ما تبقى من مياه سطحية وجوفية.
ويؤكد المدير العام لمصلحة مياه الليطاني، سامي علوية، أن الأزمة الحالية ليست ظرفية بل بنيوية، إذ بلغت المتساقطات أقل من 40% من معدلها السنوي. ويدق علوية ناقوس الخطر مائياً وزراعياً وبيئياً، مشدداً على أن لبنان دخل مرحلة جديدة عنوانها «الجفاف المناخي مع سوء الإدارة». ويشير إلى أن معالجة مياه الصرف الصحي باتت ضرورة عاجلة، وإلا فإن بحيرة القرعون قد تتحوّل من خزان حياة إلى بؤرة أزمة وطنية شاملة.
وتبرز الأرقام تبرز حجم التدهور: فحتى 22 آب 2025، لم تتجاوز معدلات الأمطار في المدن الرئيسية 40% من المعدل السنوي، وفق مصلحة الأرصاد الجوية، ما يشير إلى أن لبنان يواجه موسماً جافاً غير مسبوق منذ عقود، ويضع الحكومة والمزارعين والمواطنين أمام تحدٍ حقيقي يتطلب إجراءات عاجلة للتخفيف من الكارثة القادمة.
كذلك تكشف الأرقام الأخيرة لمستوى بحيرة القرعون بين عامي 2024 و2025 عن واقع أكثر كارثية: في 22 آب 2024، كان مستوى المياه عند 849.51 متراً فوق سطح البحر، مع مخزون يبلغ 133.092 مليون متر مكعب وإنتاج كهرومائي قدره 8.46 م³/ث في معمل عبد العال. أما في 22 آب 2025، فقد انخفض مستوى المياه إلى 838.06 متراً فقط، أي بانخفاض يزيد على 11.4 متراً، فيما تراجع المخزون إلى 53.312 مليون متر مكعب (انخفاض بنسبة 60%)، وتوقف الإنتاج الكهرومائي تماماً.
المياه الجوفية مهددة: جفاف الآبار يصل 60% والمخزون الأقدم يتراجع 80%
هذه الأرقام تعكس تراجعاً كارثياً في قدرة البحيرة على تأمين مياه الري وتوليد الكهرباء وضمان الأمن المائي. فيما يحذّر علوية من الاعتماد المفرط على الآبار الجوفية، ما يفاقم الاستنزاف ويهدد بملوحة التربة، وينذر بأزمة بيئية وزراعية عميقة.
في المقابل، يشير رئيس الاتحاد الوطني للفلاحين اللبنانيين، إبراهيم الترشيشي، إلى أن نسبة إحجام مزارعي البطاطا عن زراعة حقولهم وصلت إلى حدود 70%، ما يعني أن استثمار الأراضي لم يتجاوز 30% مقارنة مع العام الماضي.
الحقول الزراعية في البقاع الأوسط والشمالي «سترتاح هذه السنة» بحسب الترشيشي، مشيراً إلى تضرر محاصيل البطاطا والعنب والقمح بسبب غياب المياه السطحية والجفاف الشديد.
في سهل البقاع، لم يتمكن عشرات المزارعين من إكمال ري حقولهم، ما انعكس سلباً على نوعية الإنتاج وتراجعه. وحتى اليوم، لا يزال أكثر من 100 ألف طن من المحاصيل مخزّنة ومكدسة في البرادات، خصوصاً مع انخفاض سعر البطاطا عالمياً هذا العام، ما لا يشجع على التوسع في الزراعة. يضاف إلى ذلك عامل قلّة الأمطار وجفاف الآبار والينابيع، ما يجعل عملية استخراج المياه للري مكلفة جداً، ويؤدي إلى تراجع إنتاجية المزروعات كافة.
وفي الجنوب، تراجعت إمكانات ري الحمضيات والموز عبر قناة القاسمية – رأس العين، ما سيؤدي إلى أضرار في مئات الدونمات المزروعة، وفق ما يؤكده المزارع علي فاضل، الذي يخشى شهري أيلول وتشرين الأول بسبب شح الآبار الارتوازية، لافتاً إلى أن ري الحمضيات والموز يبدأ في حزيران وينتهي في تشرين الأول، أي خلال ذروة الجفاف الحالي.
ويحذر البروفسور ناجي كعدي، وهو باحث ومحاضر في الهيدروجيولوجيا، من تراجع خطير في وضع المياه الجوفية في سهل البقاع، موضحاً أن نسبة جفاف الآبار وصلت إلى حدود 60%، خصوصاً تلك الحديثة المستخدمة في الزراعة، ما يعمّق الأزمة الزراعية. فيما المياه الجوفية الأقدم تراجعت بشكل أكبر، إذ انخفض مستواها بنسبة 80%، وفي بعض الآبار لم يتبقَ منها سوى 10%.
ويلفت كعدي إلى أن سنة رطبة قد تعوض جزءاً مما فُقد، ولكن الخطر الأكبر يكمن في احتمال حدوث سنة جافة أكثر قسوة، كما حصل في عامي 2013 و2014، مع فارق أن الجفاف هذا العام أشد حدة نتيجة الاحتباس الحراري. وإذا تكرر هذا المشهد في السنوات المقبلة، فقد يصبح الوضع أكثر خطورة، مع تزايد عدد السكان وتفاقم التأثيرات السلبية على العناصر البيئية والزراعية.