لبنانيات >أخبار لبنانية
كلمة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان في حفل افتتاح مؤتمر الحوار الإسلامي المسيحي في جامعة سيدة اللويزة
كلمة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان  في حفل افتتاح مؤتمر الحوار الإسلامي المسيحي   في جامعة سيدة اللويزة ‎السبت 1 07 2017 20:51
كلمة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان  في حفل افتتاح مؤتمر الحوار الإسلامي المسيحي   في جامعة سيدة اللويزة

جنوبيات

 مُمثلَ فخامةِ الرئيس، صَاحِبَ الغِبْطَة، مُمَثِّلَ شَيخِ الأزهر، الإخوةَ والزملاء، أيها السادة،

إنَّ هذا العملَ الذي نقومُ بهِ اليومَ مُتعاوِنينَ مُتَضَامِنين، قادةً دِينيين، ومُثَقَّفِين، وَمِنْ رِجالاتِ العَمَلِ العامّ، هو عَملٌ وَطَنِيٌّ كَبيرٌ بالفِعل، وهو عملٌ إسلامِيٌّ وَمَسِيحِيٌّ جليل. لقد بَدَأ الأزهرُ هذا العملَ الرائد، مِنْ أجلِ المُوَاطَنَةِ الكامِلة، والدَّولةِ الوَطَنِيَّةِ الدُّستورِيَّةِ الجامعة، قَبلَ سِتَّةِ أعوام، على وَجْهِ التَّقرِيب، حِينَ أصدَرَ في العامَين 2011 و2012 بَيَانَاتِه وَوَثَائقَهُ التي عُنِيَتْ باستعادَةِ فَعَّالِيَّاتِ الوَحْدَةِ الوَطَنِيَّة، وَالعَيشِ المُشتَرَكِ في مِصرَ والعَالَمِ العَرَبِيّ، وتجديدِ تَجْرِبَةِ الدَّولةِ الوَطَنِيَّةِ العربيةِ أيضًا، في مِصْرَ والعَالَمِ العَرَبِيّ. وَبَلَغَتْ تِلكَ المُبَادَرَةُ اللافِتَةُ والشُّجاعَةُ ذُروَتَها، في مُؤتَمَرِ مُكافَحَةِ التَّطرُّفِ والإرهاب، عام 2014، الذي يُشارِكُ فيه عَشراتُ اللبنانيين، وبينَهم قَادةٌ دِينِيُّونَ ومُفكِّرون، ثم انْعَقَدَ المُؤتمرانِ العظيمانِ بالأزهرِ أيضًا، وبالتَّعاوُنِ مَعَ مَجلِسِ الحُكَمَاء، الأول: للمُوَاطَنَةِ وَالعَيشِ المُشتَرَك، الذي دَعَا الأزهرُ إليه خَمْسَةً وَخَمسِين لُبنانِيًّا، والثاني: في مؤتمر السلام العالمي، الذي شَارَكَ فيه لبنانيون كثيرون، وحضَرَ جَلسَتَهُ الخِتَامِيَّة، البابا فرنسيس الأول.

إنَّ عِندِي على ذلكَ أربَعَ مُلاحظات، اِثنتانِ تَتَّصِلانِ بالدِّينِ وَدَورِه، والثالثةُ بالدَّولةِ الوَطنِيَّة، والرَّابِعَةُ بلبنان. المُلاحَظَةُ الأولى، تَتَمَثَّلُ في نُهوضِ هذه المُؤَسَّسةِ الدِّينِيَّةِ الكُبرَى، بِمُهِمَّةٍ كُبرَى ذَاتِ شِقين: اِستعادَةُ السَّكِينَةِ في الدِّين، وَمُكافَحَةُ الانشقاقات، والانتصارُ لاتجاهِ التَّيَّارِ الرئيسي، أو السَّوادِ الأعظمِ الذي يُريدُ الاعتدالَ والوَسَطِيَّة، والشِّقُّ الآخَرُ التَّدَخُّلُ لإزالةِ هذا التنافُرِ الذي صَارَ شائعًا في العَالَم، وبخاصَّةٍ في العَالَمَينِ العَرَبِيِّ والإسْلامِيّ، بَينَ الدِّينِ والدَّولة. 

هناكَ تَرَابُطٌ وَتَلازُمٌ بينَ التَّطَرُّفِ والانشقاقِ الدِّينِيِّ مِنْ جِهَة، وهذا النُّفُورُ مِنَ الدُّولِ الوَطَنِيَّةِ ونِظامِ العَالَمِ كُلِّه. وهذه مُهِمَّةٌ جَلِيلةٌ جِدًّا وَبِشِقَّيهَا، الشِّقِّ المُتعَلِّقِ بِمُكَافَحَةِ التَّطرُّفِ والإرهاب، والآخَرِ المُتَعَلِّقِ باسْتِعَادَةِ الثِّقَةِ بينَ الدِّينِ والدَّولَةِ الوَطَنِيَّةِ الجامعة. أمَّا المُلاحَظَةُ الثانية، فهي تِلكَ المُتَعَلِّقَةُ بِأَفْهَامِنَا نَحن أهلَ الدِّيِن، لِدَورِ الدِّين، وَتَصَوُّرُ الآخَرِينَ لِهذا الدَّورِ أو الأدوار. 

لقد قِيلَ الكثيرُ في زَمَنِ العَلمانِيَّةِ وَالعَولَمَة، عَنْ ضَرُورَةِ إقصاءِ الدِّينِ عَنِ الشَّأنِ العَامّ، لِكَي تَقومَ المُوَاطَنَة، وَتَسْلَمَ وَحْدَةُ المُجْتَمَعَاتِ وَالدُّوَل. وقد عَلَّمَنَا الأزْهَرُ بِمُبادَرَاتِه، أنَّ هناك حَاجَةً شديدةً وَوُجُودِيَّةً لِلسَّلامِ الدِّينِيّ، في الدُّوَلِ وَالمُجْتَمَعَات، وإنَّ عَزلَ الدِّينِ أو مُؤسَّسَاتِهِ مُضِرٌّ جِدًّا بِالمُجْتَمَعَاتِ والدُّوَل. المُؤسَّسَاتُ الدِّينِيَّةُ لا تُريدُ أنْ تَحْكُمَ أو تُسيطِر، شَأنَ ما يُريدُهُ أو يَهدِفُ إليه المُتَطَرِّفون؛ وإنَّما تُريدُ أنْ تَدعَمَ سَلامَ الأوطانِ وسلامَتَهَا، وَوَحْدَةَ المُجتَمَعَاتِ وَانْسِجَامَها. وَيكونُ علينا نحن القادَةَ الدِّينِيِّين، أنْ نَتَأمَّلَ هذا الدَّورَ أو الأدواتِ الجديدةَ والعريقةَ في الوقتِ نفسِه، لِلدِّينِ ومُؤسَّسَاتِه. 

إنَّ تَجرِبَةَ الأزهَرِ المُستَجِدَّةَ وَالوَاعِيَة، قدَّمَتْ وَتُقَدِّمُ دُروسًا، طالَمَا طَمِحْنَا نَحن القادَةَ الدِّينِيِّينَ في لبنان، لِلقِيَامِ بها، خِلالَ النِّزَاعَاتِ الكثيرةِ التي نَشِبَتْ على أرضِ لبنان. كُنَّا نُسَمِّيهَا حِوارًا إسلامِيًّا مَسيحِيًّا تارةً، وَقِمَمًا رُوحِيَّةً تَارةً أُخرى. وقد يكونُ ضَرُورِيًّا تأمُّلُ تَجَارِبِنا بِدِقَّةٍ وَنَقْدِيَّة، في ضَوءِ ما يُحَاوُلُ الأزهرُ القِيَامَ بِهِ في الجَوَانِبِ الوَطَنِيَّةِ والدِّينِيَّةِ وَالعَالَمِيَّة.

أمَّا المُلاحَظَةُ الثالثة،فهي تَتَعَلَّقُ بالدَّولة، الدَّولةِ الوَطَنِيَّةِ العَرَبِيَّةِ بالذَّات، التي تُوَاجِهُ أزْمِنَةً صَعْبَةً وَصَعبَةً جِدًّا. هناك عِدَّةُ حُروبٍ أهلِيَّةٍ أو غَيرِ أهْلِيَّةٍ ناشِبَةٍ في عِدَّةِ دُولٍ عَربِيَّة، وهناكَ تَكَالُبٌ إقليمِيٌّ وَدَولِيٌّ على الدَّولةِ العَرَبِيَّة، مِنْ أجلِ الإضعَافِ أوِ الإزالة. وَهناكَ إصرارٌ مِنْ كُلِّ اتجاهٍ على اعتبارِ الثَّوَرَانِ الدِّينِيّ أكْبَرَ المُشكِلاتِ التي تُوَاجِهُ الدُّولَ العَرَبِيَّة. وأنا أرى أنَّ المُتَطَرِّفِينَ الانشِقَاقِيِّين، يُشكِّلون مُشكِلةً كُبرَى للدِّيِن وَلِلدَّولة. لكنَّ دُوَلَنا وَإدَارَاتِها، تُواجِهُ مُشكِلاتٍ أُخرى غَيرَ دِينِيَّة، كانَتْ وَمَا تَزَالُ بَينَ أسبابِ تَصَدُّعَاتِها. وما أُريدُ الوُصولَ إليه، أنَّ اسْتِنْقَاذَ الدَّولةِ السياسيةِ وَالوَطَنِيَّةِ في العالَمِ العَرَبِيّ، يَحتَاجُ إلى تَضَامُنٍ كَبيرٍ بَينَ سَائرِ الفئاتِ السِّياسِيَّةِ وَالدِّينيةِ والمَدَنِيَّة، والثَّقَافِيَّةِ والاجتماعِيَّة. مَا عادَ يُفيدُ القول: إمَّا أنْ تَكونَ الدَّولةُ على هذه الشَّاكِلةِ أو تِلك، أو نَحنُ لَسْنَا مُستعِدِّينَ لِدَعْمِها. هذا غيرُ مَقبول، بلْ غَيرُ مُمْكِن، وأُولَى الفئاتِ التي يَنبَغِي أنْ تُحِسَّ وَتَعِيَ هذا الوَاجِب، فِئةُ القَادَةِ الدِّينِيِّينَ وَالمُؤسَّسَاتِ الدِّينَيَّة. 

هناك ضَرُوراتٌ أخلاقية، وَمَسؤولِيَّاتٌ تَتَجَاوَزُ العَلمَانِيَّاتِ وَالعَولَمِيَّات، وهذا الانفلاتُ الفَوضَوِيُّ الذي لا يَعرِفُ أخلاقًا ولا قِيَمًا، وَلا وُجُوهَ وَعْيٍ رَشِيد. إنَّ على القَادَةِ الدِّينِيِّينَ في العَالَمِ العَربِيّ، أنْ يُرَاجِعُوا تَجَارِبَهُمْ لهذه النَّاحية: كم سَاعَدُوا وَكم عَمِلُوا على صَوْنِ دُوَلِهِمُ الوَطَنِيَّةِ التي تَخدُمُ الإنسانَ والعُمرَان، وَتكُونُ مَسؤولةً عَنْ إحْقَاقِ الاستِقرارِ والأمنِ والمُوَاطَنَة. لقد جَعَلَ مُؤتمرُ الأزهرِ لِهذهِ الدَّولةِ رُكْنَين: العَيشَ المُشتَرَك، والمُوَاطَنَةَ أوِ العِكس، وفي كِلا الأمرَين، نَستَطِيعُ أنْ نَجِدَّ وَنَعمَلَ دُونَ أنْ نَتَجَاوَزَ أحدًا، وَدُونَ أنْ نَدَّعِيَ مَا ليسَ لَنَا، أو مَا ليسَ مِنْ صَلاحِيَّاتِنا.

أما الملاحظة الرابعة والأخيرة،  فإنَّها تَتَعَلَّقُ بِلبنانَ وَتَجرِبَتِه. فقدِ اهتَمَّ الأزهرُ اهتمامًا خاصًّا بالتَّجرِبَةِ اللبنانية، وإلا لَمَا أَشْرَكَنَا في هذِهِ الكَثَافَة، نحن اللبنانيين شديدو الاعتزازِ بالتَّجرِبِةِ في المُوَاطَنَةِ وَالعَيشِ المُشتَرَك، التي نُسَمِّيهَا الصِّيغَةَ اللبنانيةَ الفَرِيدَة. إنَّ الذي أراه، أنَّنا نحن اللبنانيين، وبخاصةٍ الأجيالَ الشَّابَّة، مَا عادَتْ تُقَدِّرُ تِلكَ التَّجْرِبَةِ حَقَّ قَدْرِها. ثم إنَّ التَّعَثُّرَاتِ في التَّجْرِبَةِ هائلةٌ وكَثيرة، وَكَثيرٌ مِنها يَتَّجِهُ لِفَصْلِ المَسِيحِيِّينَ عَنِ المُسلِمين، أوِ العكس، بحيثُ يُصبِحُ النِّظَامُ نِظَامَ مُساكَنَةٍ لا مُوَاطَنَة. إنَّ وَاجِبَنَا نحنُ القادَةَ الدِّينِيِّين، أنْ نَضْغَطَ باستمرار، وَبِشَتَّى الوَسَائل، لِلنُّهوضِ بِقِيَمِ العيشِ المُشتَرَكِ ومُمَارَسَاتِه. وقد قِيلَ لي: إنَّ التَّعبِيرَ نفسَه: العيشَ المُشتَرَك، هو مِنْ وَضْعِ أسلافِنَا في هذا الوطن.

إنَّ مُؤتَمَرَكُم هذا يا غِبْطَةَ البطريرك، ويا كُلَّ الذين عَمِلوا على عَقدِه، مُتابَعَةٌ لِمُؤتَمَرِ الأزهرِ واسْتِثمَارًا له، يَدعُونا إلى أمْرَين: العَمَلُ على تَجدِيدِ الوَعْيِ بِشَتَّى الوَسائل، بِأهمِيَّةِ تَجْرِبةِ الدَّولةِ الوَطَنِيَّةِ في لبنان، دَولَةِ المُوَاطَنَةِ والعَيشِ المُشتَرَك، وَذلِكَ لَدَى شَبَابِنَا، وَقبلَ ذلك، لَدَى سِيَاسِيِّيِنَا مِنْ دُعَاةِ الفَصْلِ وليسَ الوَصل، وأخيرًا لدَى العَرَبِ والعَالَم؛ بحيثُ تَعودُ التَّجرِبَةُ اللبنانيةُ نَموذجًا يُحتَذَى، كما كانَتْ قَبلَ العام 1975 . أمَّا الأمرُ الآخَر، فهو الحِرصُ على تَمْتِينِ الصِّلاتِ بالأزهرِ وبالفاتيكان، وبمَجْلِسِ الكنائسِ العَالَمِيّ، للإفادةِ مِنْ تَجارِبِهِمْ ومُمَارَسَاتِهِم، وَلتَجدِيدِ ثَقافَةِ العَيشِ المُشتَرَك، وَثَقافَةِ العَلاقَةِ بالعَالَم.

غِبطَةَ البطريرك، مُمَثِّلَ الأزهر، مُمَثِّلَ الفاتيكان، أيها الحفلُ الكريم،

إنَّ المُجتَمِعِينَ اليومَ للاحتفاءِ بِتَجرِبَةِ الأزهرِ الوَاعِيَةِ والمُستَنِيرَة، ولِإصدارِ إعلانِ اللويزة، هُمْ نُخبَةٌ مِنْ نُخَبِ لبنانَ ودَولتِهِ الوَطَنِيَّة، وَهم يَستطيعونَ بهذا الوَعيِ الفَتِيِّ وَالمُتَجَدِّد، أنْ يُسهِمُوا في تَجديدِ التَّجرِبَةِ اللبنانية، وَتَجْرِبَةِ الدَّولةِ الوَطَنِيَّةِ الدُّستورِيَّةِ في العَالَمِ العربيّ.

تَحيةً لِلأزْهَر، وَتحِيَّةً لِغِبْطَةِ البطريرك وسائرِ الزُّملاء، وَتحيَّةً لِجامِعةِ سَيِّدَةِ اللويزة، وتَحيةً لِلبنانَ وَشَعبِه، وَلِكُلِّ مَنْ يُريدُ سَلامَ الأديانِ والأوطَان.