لبنانيات >أخبار لبنانية
محمد لمع: في الجنوبي يعيش آلاف الشهداء
محمد لمع: في الجنوبي يعيش آلاف الشهداء ‎السبت 9 11 2019 09:37
محمد لمع: في الجنوبي يعيش آلاف الشهداء

محمد لمع

لا.. ليس لأجلهم..

لا.. لا ليس لأجلنا، فأنا ابن الجنوب.. قبل أن تكون الأرض وقبل الخلق وهنا أبقى بعد فنائها جميعًا.. 

ليس لأجلي هذا الكلام.. فأنا ابن التراب والقمح والتبغ، وانا ابن البيدر العتيق وخبز الصاج.. أنا ابن ابريق الفخّار وجرار الزيت، أنا ابن التين والزيتون، أنا ابن الزعتر والجوز.. 

وفوق هذا كلّه، أنا ابن تلك اليدين الخشنتين المتشقّقتين، تنقب تراب العطاء حبًّا، وتروي غرسه عرقًا طاهرًا فتنبت منه مواسم الخير الحلال الزلال المصفّى، ويوم ينوء تحت الاحتلال، أحمل باليد ذاتها بندقيّتي، أزيّن بها رجولتي، وأمضي.. 

لا.. ليس لأجلي، فأنا، يا من أنكرتني، يعرفني أهل الشجاعة والكرامة والشهامة.  أنا ابن محمّدٍ سيّد الخلق ، وأنا ابن عليٍّ أعدلهم وأشجعهم، وأنا ابن الحسين أبيّ الضيم وسيّد الشهداء وملهم الاحرار. 

أنا سكنت هذه الارض منذ جئت كالسّيل الذي جرف سدّ أرض جزيرة العرب قبل الميلاد، وحملت معي كلّ نخوة العرب وجودهم وشهامتهم. لوني الذي لم تحبّه، أسمرُ كالحنطة قبل طحنها، وقلبي أبيضُ مثلها وهي تخرج من بين حجر الرحى، ورائحتي مثل خبزها تلوحه يدا جدّةٍ عتيقةٍ فيتمايل على زنديها ويخرج من تنورها أحمرَ يسرّ من رآه، وينبت لحمه من زادٍ لم يخالطه شبهةٌ.

لا ليس لأجلي با معالي الوزير..ليس لأجلي... فأنا ابن الجنوب.. وما أدراك ما الجنوب..

رجالٌ ما بخلوا بالقاني... ونساءٌ   زغردن في أعراس الشهادة..

أنا من هناك، حيث تأتي شعوبٌ وتروح شعوبٌ، كلّهم ذهبوا وبقي الجنوب. 

أنا ابن الجنوب الذي جعل صوت فيروز غاليًا ورفع جبينها عندما غنّته. نعم أنا ابن الجنوب المشغول من القلوب والمكتوب ترابه بالعزّ.. (جوزيف حرب)، وأنا ابن الجنوب الذي كان الله مع بيته الصامد الذي تربى وديع الصافي على الوفاء تحت سقفه، وأنا ابن الجنوب الغالي على قلب نصري شمس الدين وأنا ابن الجنوب الذي غابت شمس الحقّ وانشقّ صدر الشرق لجرحه، كما صدحت حنجرة جوليا يوم نزف دم الزرارية وعربصاليم ومعركة وجبشيت.. 

أنا ابن صادق حمزة الفاعور وأدهم خنجر الصعبي، وانا ابن وادي الحجير ومؤتمر البطولة.. أنا عدوّ الروماني واليوناني والمملوكي والعثماني والفرنسي.. أنا ابن الجنوب، عدوّ مغتصب فلسطين.. أنا ابن الجنوب.. أنا ابن المقاومة.. ابن الشيخ راغب وتربية السيّد عبّاس.

 أنا من ودّع  سناء محيدلي في باتر، وأنا من فخّخ سيارة أحمد قصير في صور وأنا من ضغط على عبوة بلال فحص في الزهراني، وأنا من حمل عبوة لولا عبود في غربي البقاع ، وأنا من أطلق رصاصاتِ سهى بشارة على رأس لحد.. 

وأنا صواريخ عماد مغنية في العفولة والخضيرة وطائرة حسان اللقيس تتنفس هواء فلسطين من الجليل إلى النقب.. 

أنا أنظر بعينيّ مصطفى نذر، وفي ضلوعي يخفق قلب أبي عيسى، وأتنفس برئة سالم عبود، وأضرب بيدَي مصطفى حيدر وأمشي بقوّة أبي محمد الاقليم، وأهتدي بحكمة محمد مقلّد. أنا ابن جدتي التي قالت يوم جاءها الناعون، إن ابني الوحيد علي قد استشهد فداءً للجنوب، هاتوا يدي المقاوم الذي زرع العبوة لأقبلهما.

.. إن أردتً معرفتي أكثر، أنا رجلٌ يعيش فيه آلاف الشهداء.. وآلاف الفقراء وآلاف الجرحى.. لكني ابن الجنوب.. وجبيني عالٍ علوّ السماء..

عندما كنت صغيرًا كنت أخجل من لهجتنا في الجنوب، وأخجل من لباس النساء المزركشة عندنا.. كنت أخجل بشروال الرجال والكوفية العربية وثياب الجدّات..

لكني اليوم يا معالي الوزير.. وبعد أن جلتُ بقاع الارض، أضع كل ما كنت أخجل به، تاجًا على رأسي ووسامًا على صدري.. ولوكان لي أن أختزل كل شيم الكرامة والنخوة في كلمة لكانت الجنوب.. أكتبها على قماشٍ خيطته أمي على ضوء سراج الزيت، وأعصب رأسي بها.. فأملك الدنيا..

معالي الوزير.. لن أقول كغيري إنّ بعض النحاس يصدأ.. فليس الشتم من خصالي وأراه يذهب بالجوهر.. 

لكني أتوجه إليك بكلمتين، وقد كان لنا لقاءٌ جمعني بك منذ أشهرٍ قليلةٍ. كنا لوحدنا، أنا وأنت وبيننا علم لبنان وراية المقاومة.. حتى أني أهديت إليك دبابةً معقودة المدفع، رمز دبابة الحجير التي طحن عشرةً منها قاهر الميركافا، ابن الجنوب أيضًا، الفتى علي صالح. وقلت لي يومها، أنها من أغلى الهدايا التي تتلقاها. 

حتى يوم أمس، كان لك في قلوب اللبنانيين مكانةٌ ما كانت لغيرك، وأنا أعلم خلفيتك اليسارية، وعدم رضاك عن سلوك الحزب داخل لبنان.

واللهِ ما أحزنني انتقادك النواب والوزراء.. ولا توصيفك سبب بقاء الحزب في الحكومة والبرلمان.. فكلّ ذلك خاضعٌ للنقاش وبعضه صحيح..

لكن أن تكون عنصريًا وتتكلم بثيابنا ولهجتنا وتشكك بتاريخنا، فهذا ما أفجعني، وتمنيت لو يكون كابوسًا فأستيقظ منه لأجد شربل الذي ينطق ذهبًا كما أعرفه..

نحن يا معالي الوزير أبناء الذين سكبوا الزيت المغليّ على الصهيوني، لا تأخذنا بجريرة بعض الخائفين الذين رشوا حبيبات أرزّ لاتقاء شر الجنود الزاحفين علينا دون حامٍ أونصير..

ثم أنت اليساري الشيوعي اللادينيّ تتكلم عن أهل الجنوب الشيعة الذين تعرفهم من كلامهم ومظهرهم؟

أنت شربل نحاس؟ في لحظة نشوةٍ منبرية تنطق عنصريةً وتنضح كراهيةً لم يقلها أقصى اليمين في لبنان؟

كلا يا معالي الوزير.. لطالما أحببنا لهجتك الشمالية الثقيلة وقلنا عنك العفويّ غير المتكلف، والوحيد الذي لا يلبس قمصانًا أجنبيةً وذا الشعر غير المصفّف.. كنا ننظر إلى جوهر كلامك، لا إلى القشور.. أنت اليوم تقول هذا؟

والفاجعة الثانية تشكيكك بالمقاومة لتقول أن هناك من جيّر الدين لخدمة مشروعٍ احتياط هومشروع (هانوي المقاومة) فيما لوفشل مشروع (هونغ كونغ الاقتصادي). هكذا ببساطة تنسف الموروث الديني الذي تعتنقه هذه الثلة المؤمنة الطاهرة التي حررت الوطن وتتهم قيادتها التي استشهد أكثرها، بالعبث بمشاعر الناس وسرائرهم لتحقيق مكاسب، سياسية؟ 

أي مكسبٍ للشيخ راغب وللسيد عباس، وعماد مغنية وللسيد حسن بعد استشهاد هادي؟ إلا إذا كنت تقول أن إيران هي الاخرى تستغل قيادة المقاومة.. حينها أذكرك باستشهاد ابن الامام الخميني ونجاة السيد الخامنئي من القتل أكثر من مرة.. ثم إنّك هل فكّرت بثورة الشيعة أكثر من غيرهم وسبب بقاء مقاومتهم دون غيرها؟ إذا كنت لتفصلها عن كربلاء فهذا يستدعي قراءةً معمّقةً من جانبك للموروث الشيعي.

ثم كانت الفاجعة الثالثة والكبرى أنّنا مشكلةٌ سيكون عليك والآخرين حلّها لتنقذنا من الأسر!

نعم يا سيدي، نحن أسرى العز والكرامة والشجاعة والشهامة والبطولة.. نحن أسرى عباءة السيد حسن التي كما قالت عنها امرأةٌ ذات يوم، أنه ينبغي توزيعها على الناس علّهم يصابون بعدوى الكرامة.. فانظر كيف تنقذنا من أسرها لتخرجنا إلى نور زعامات السرقة في المناطق وسنكون لك من الشاكرين..

وإن كنت تغمز من قناة الماضي عندما كان الشيعة عتالين في المرافئ وخدّامًا في المنازل، فما عليك إلا بزيارة الحدود، لترى القصور التي خرج من بعضها الشهداء، وزيارة الجامعات الكبرى في لبنان وتطلب كشفًا بمذاهب طلابها (يؤسفني هذا الخطاب) وانظر عدد الناجحين في كل الوظائف وانظر أسماء الاوائل في الشهادات.. 

لا أعرف ماذا ستقول بعد اليوم وإذا ما كان كسر الزجاج يجبر. ليست لك هذه السقطة الكبرى وليس مثلك من يهوي في ساعةٍ جماهيريةٍ.. لن أكون شتّامًا، لكنّي سأقول إن خزانة النفائس  في بلدي ضاع منها جوهرةٌ، أوربما هي لم تكن هناك من الاساس.. أولم تكن يومًا، جوهرةً.. وما أكثر الزجاج.. 

 

* نائب رئيس غرفة التجارة والصناعة