بأقلامهم >بأقلامهم
النظام السياسي الفلسطيني عند مفترق طرق
النظام السياسي الفلسطيني عند مفترق طرق ‎الأحد 11 04 2021 15:31 فهد سليمان*
النظام السياسي الفلسطيني عند مفترق طرق

فهد سليمان*

أمام استحقاق إنتخابي مثلث الأطراف: تشريعي، رئاسي، ومجلس وطني؛ وهو استحقاق طال انتظاره، وتعطَّل، رغم جزالة الخطاب الداعي إليه، يقف النظام السياسي الفلسطيني عند مفترق طرق، سوف يُقرر مصيره، أياً منها سوف يسلك: أ) طريق الخروج من أزمة إستفحلت، ولا تقتصر على إنقسام مؤسسي وجغرافي راهن فحسب، بل تعود أيضاً إلى عوامل متعددة، بعضها تأسيسي وآخر ظرفي، شكلت مجتمعة وبالتقادم، أرضية مؤاتية، يسَّرت الوصول إلى انقسام، كان لا بد أن يفاقم معالم أزمة النظام السياسي؛ أم، ب) طريق مواصلة الإستغراق المديد في وحول أزمة متعددة الأوجه، بات أبرز مظاهرها يتمثل بانقسام تتعمق معالمه الهيكلية، وتزداد رسوخاً كلما امتد في الزمن.
إن الرأي الذي تعكسه هذه الورقة، يُغلِّب إحتمال شروع النظام السياسي الفلسطيني الخروج من أزمته، في ضوء، وعلى يد ما سوف تتمخض عنه الإنتخابات العامة من نتائج، سواء استكملت بمحطاتها الثلاث، أم اختزلت بمحطتها الأولى، أي إنتخابات المجلس التشريعي؛ لا بل يمضي هذا الرأي أبعد من ذلك، عندما يشير إلى أن شروع النظام السياسي الفلسطيني بالخروج من أزمته التي بلغت قاع القاع في انحدارها، هو الأرجح، حتى لو تم – لسبب أو لآخر – تعطيل الإستحقاق الإنتخابي، حيث لا يوجد خيار أمام النظام السياسي القائم على خط جانبي الإنقسام، وما لم تتغلب عنده – وهو ما نستبعده – نزعة الإنتحار على غريزة البقاء، لا يوجد خيار أمام النظام السياسي سوى الإقدام على خطوات تجعله يتجاوز حال الإحتكار البيروقراطي للسلطة، التي تحوَّلت إلى سمة ملازمة لأسلوب إدارته للأوضاع عموماً، تحت سقف سياسي نازع إلى الهبوط، ما جعل الجمود على هذا الحال – في الوقت نفسه – أحد الأوجه الرئيسية المفاقمة لأزمته.
ستكون الشراكة الوطنية، وانفتاح المؤسسات على المشاركة، دون أن تقع في محذور المحاصصة، من أبرز الخطوات التي سيُضطر النظام السياسي القائم أن يُقِدم عليها، حتى لو لم تتزامن مع استعادة الوحدة الداخلية على أساس برنامجي ومؤسسي مكتمل الأركان، حيث توفُر الحد الأدنى من عناصر هذين الأمرين، هو شرط كافٍ بحد ذاته، إن انفتح بمقياس الزمن، على وجهة التطوير.
إن الهجمة الإسرائيلية المتعاظمة توحشاً باستهدافها الأرض ومن عليها، وسائر الحقوق الوطنية، على خلفية وضع إقليمي غارق في هموم دواخله، وعالق في مشاكله، تجعل من هذا الرأي، بما يترتب عليه من خيارات سياسية، فرضية عمل من شأنها، في حال تحققها، أن تنقل الحالة الفلسطينية إلى مشارف إعتماد استراتيجية وطنية بديلة، بتعبيراتها السياسية وتطبيقاتها الميدانية، تضعها على طريق الإنعتاق من أحكام أوسلو وإكراهاته، وتجعلها تستأنف بحيوية، مسار التحرر الوطني، إنسجاماً مع قرارات المؤسسات الشرعية الفلسطينية، التي لم يُسعف التأكيد الدائم عليها، والترويج لأهميتها – حتى الآن – في إخراجها إلى حيّز النور.
 
(1)
في تفاقم أزمة النظام السياسي
يقوم النظام السياسي الفلسطيني على كيانين، يتمايزان هيكلياً، إنما مع بعض التداخل القائم، خاصة على مستوى رأس الهرم: أ) الكيان الأول تمثله منظمة التحرير، وهي الأرفع مكانة، بفعل مركزها القانوني، وصفتها التمثيلية، وعمقها التاريخي الذي أكسبها رمزيتها الوطنية، والمعنوية الإعتبارية؛ ب) الكيان الثاني تجسده السلطة الوطنية، وهي مركز السلطة الفعلي، بمقياس الدور والصلاحيات والفعالية المؤسسية، التي أدت، مجتمعة، إلى انتقال مقاليد العملية الوطنية – بالممارسة – إليها.
بدأت أزمة النظام السياسي الفلسطيني بالظهور، عندما انتفى التوازن في العلاقة ما بين هذين الكيانين، حيث لجأ القيّمون على مركز القرار الرسمي، وبالتالي على السلطة، إلى إضعاف منظمة التحرير، وصولاً إلى تصفية عديد مؤسساتها، تحت وهم أن السلطة الفلسطينية هي الدولة في صيرورتها، ما عنى أن مركز القرار الرسمي تخلَّى بوعي عن أحد أهم عناصر القوة الفلسطينية الذي تجسده م.ت.ف بمكانتها، ومؤسساتها، وطاقتها التعبوية المتميّزة، إنطلاقاً من التفاف الشعب حولها.
إزدادت منظمة التحرير ضعفاً، وتآكلت مكانتها – سياسياً – دون أن تفقد شرعيتها القانونية والتمثيلية الرسمية، عندما بقيت دون استيعاب حركتي حماس والجهاد في أطرها، على الرغم من أهمية الدور الوطني والنفوذ الجماهيري لهذين التنظيمين، ما أسس – ضمن تداعيات سيادة منطق الصراع على السلطة بين حركتي فتح وحماس– لانقسام مؤسسي وجغرافي، شطر النظام السياسي الفلسطيني عمودياً إلى شطرين، وإن كانا غير متساويين، أو حتى غير متكافئين.
بالتوازي مع الإنقسام، تفاقمت أزمة النظام السياسي، في ضوء فشل القيادة الفلسطينية الرسمية في كسر قيود الإتفاق السياسي الذي أنجب السلطة الوطنية، أي إتفاق أوسلو، الذي ما انفك يحاصرها خلف جدران الحكم الإداري الذاتي على السكان في الضفة والقطاع، فواصل الإحتلال استيطانه المنهجي للأرض، واستتبع السلطة الوطنية بالتزامات إقتصادية، إدارية، وأمنية بخاصة، لم تتمكن حتى الآن التحرر من إملاءاتها.
وتفاقمت أزمة النظام السياسي، خاصة، بعد أن فشلت عملية التسوية السياسية طيلة ما يقارب ثلاثة عقود من الزمن، فبعد انهيار مفاوضات كمب ديڤيد في تموز(يوليو) 2000 بالتحديد، لم تنجح جميع المحاولات التي بُذلت خلال أربع ولايات كاملة لرئيسين أميركيين (بوش الإبن، ثم أوباما) في إطلاق عملية سياسية ذات مغزى.
على امتداد هذه الفترة الطويلة، وعلى الرغم من انحياز الموقف الأميركي البيِّن إلى الجانب الإسرائيلي، وافتقاده الدائم إلى النزاهة والشفافية والحياد معاً، فإن الإدارات الأميركية المتعاقبة حرصت على الحفاظ على الحد الأدنى من الأسس والمعايير التي أبقت على دور واشنطن، كوسيط مقبول، على عواهنه، من الجانب الفلسطيني الرسمي.
أجرت إدارة ترامب قطيعة كاملة مع هذا التقليد المُتبع من الإدارات السابقة، فلم تَدْعُ لاستئناف المفاوضات بجدول أعمال مُتفق عليه، بل قدمت مشروعها الخاص، الرائج بمسمى «صفقة القرن» (المستوحى بالنص تقريباً من أفكار نتنياهو، واليمين الإسرائيلي عموماً)، الذي نسف بالكامل قرارات الشرعية الدولية كأساس للتسوية السياسية، وشرعت واشنطن بتطبيقه، خطوة خطوة، بالإتفاق مع الجانب الإسرائيلي، وبالضد من الإرادة الفلسطينية.
قبل حوالي أربعة أسابيع من انتخابات الكنيست الإسرائيلية الـ 23، وفي 28/1/2020 بالتحديد، أعلنت إدارة ترامب عن مشروعها بالنص الكامل. وأتت الحكومة الإسرائيلية الجديدة، المنبثقة عن الإنتخابات التشريعية، لتتبنى المشروع الأميركي، وأعلنت في 17/5/2020 عن عزمها الشروع بتطبيقه من مدخل ضم أراضٍ في الضفة الغربية، بدءاً من شهر تموز (يوليو) 2020. وعند هذا النقطة، كان النظام السياسي الفلسطيني قد بلغ ذروة أزمته، تلك الأزمة الناجمة عن تلاقي الإنقسام الفلسطيني مع مشروع تصفية الحقوق الوطنية، الذي بدأت تتجمع نُذُر تطبيقه. فكان لا بد – قبل فوات الأوان – من رفع التحدي، ولم يكن من مفر من اجتراح الرد المناسب على كل هذا.
(2)
محطات على طريق خروج النظام السياسي من أزمته
سريعاً، أتى الرد الفلسطيني على قرار الحكومة الإسرائيلية، ففي 19/5 قررت القيادة الفلسطينية أنها باتت بحلٍ من الإتفاقيات والتفاهمات التي وقعت مع الحكومتين الإسرائيلية والأميركية، ومن كافة الإلتزامات المترتبة عليها، بما فيه الجانب الأمني. قرار 19/5، لا يُقرأ من زاوية الرد على صفقة القرن، وقرار الشروع بالضم فحسب، بل أيضاً، وخاصة، كمحاولة للخروج من مأزق النظام السياسي الفلسطيني، والأزمة السياسية التي تعصف بمرتكزاته، ووضع مصيره على بساط البحث جرّاء إلتزامات أوسلو، ما جعلنا نعتبر أن قرار 19/5 هو المدخل لتنفيذ قرارات الدورة 23 للمجلس الوطني– 2018، التي رسمت طريقاً واضحاً للخروج من دائرة هذا الإتفاق الرديء بكل المقاييس.
أهمية قرار 19/5 أيضاً، كنقطة إنعطاف في السياسة الفلسطينية، تكمن في أنه طُرح للتنفيذ، ما أشاع جواً من الترحيب الوطني العام، فتح ملف البحث الجاد في كيفية تجاوز الإنقسام، باعتبار أن التقاء مساعي الخروج من أوسلو، مع ما يقابلها من جهد لإعادة بناء الوحدة الداخلية، إنما يرسمان معاً طريق تجاوز النظام السياسي لأزمته.
إن الجهود التي بُذلت للجمع ما بين الأمرين (الخروج من أوسلو + بناء الوحدة الداخلية)، لم تُفلح في منع تجديد الإلتحاق بأوسلو، لكنها مع ذلك، لم تتمكن تماماً، من تعطيل الدينامية التي أطلقها قرار 19/5، لجهة التقدم نحو استعادة الوحدة الداخلية. وفي هذا الإطار نشير إلى المحاولات الثلاث التي بُذلت في هذا السبيل:
المحاولة الأولى التي أُعلنت في 19/5، تم التراجع عنها في 17/11 بقرار العودة إلى التنسيق الأمني وسائر متعلقات أوسلو.
المحاولة الثانية، إنطلقت من مُخرجات إجتماع الأمناء العامين في 3/9، التي اعتمدت آلية تقوم على ركيزتين لاستنهاض الحالة الوطنية ومواجهة مشروع الضم: تشكيل لجنة وطنية موحدة لقيادة المقاومة الشعبية الشاملة + إعتماد رؤية استراتيجية في غضون خمسة أسابيع لتحقيق إنهاء الإنقسام، وإجراء المصالحة، وإحداث الشراكة في إطار م.ت.ف، على يد ورقة عمل شاملة، تجري المصادقة عليها من المجلس المركزي لـ م.ت.ف، بمشاركة الكل الوطني.
لكن سرعان ما تم التخلي عن هذه الآلية التي حظيت بالإجماع الوطني، لصالح آلية أخرى، تم التوصل إليها بين حركتي حماس وفتح في لقاء جمعهما في اسطنبول في 23-24/9/2020، آلية تقوم على الدعوة لانتخابات عامة على 3 دفعات متتالية ومترابطة: تشريعية، رئاسية، ومجلس وطني.
المحاولة الثالثة جرت، بعد تعثر تفاهمات اسطنبول، بفعل تباين الرأي بين حركتي فتح وحماس حول الجدولة الأنسب لإجراء الإنتخابات العامة: تتابع محطاتها الثلاث بسقف زمني محدد، أم تزامنها، استعيدت هذه التفاهمات لصيغتها الأصلية، فصدرت المراسيم الرئاسية بالدعوة للانتخابات بمحطاتها الثلاث في 22/5، 31/7، و 31/8/2020. وعلى هذه القاعدة استضافت القاهرة جولتين للحوار الوطني الشامل (8-9/2 و 18-19/3/2021) أنجزتا المطلوب لانتخابات التشريعي، إلى جانب إفتتاح نقاش أولي حول استكمال تشكيل المجلس الوطني بالانتخاب حيث أمكن، وبالتوافق الوطني عندما يتعذر ذلك.
بعد أن تم التراجع عن قرار 19/5، وعن مُخرجات 3/9، لصالح إجراء الإنتخابات العامة، وبعد حوار وطني حقق، على جولتين، توافقاً على انتخابات التشريعي، وعلى موقع الأخير في النظام السياسي الفلسطيني، يطرح نفسه السؤال التالي: هل ستنفتح أمام الحركة الوطنية الفلسطينية سُبُل إعادة بناء نظامها السياسي وانتشاله من أزمته المستدامة؟ وعلى هذا نجيب أولياً (مع كل التحفظ اللازم) بنعم، لأن الحالة الفلسطينية باتت أمام مسار إنتخابي مُلزم، سيقود إلى نظام سياسي بمؤسسات تعددية التكوين سياسياً، متجددة الشرعية، شعبياً.
أما في حال التراجع عن هذا الخيار، فلن تكون القيادة الرسمية في وضع تُحسد عليه، إن من زاوية ما سوف يلحقه هذا التراجع من ثلم لشرعيتها (المهتزة أصلاً)، أو من زاوية تسعير التناقضات المعتملة في دواخلها؛ والأهم: ستكون موضع مساءلة، لا بل محاسبة من الشعب الذي عبَّر بوضوح عن تمسكه بخيار التغيير الديمقراطي، إن بالإقبال – في الضفة بما فيه القدس + القطاع – على التسجيل في لوائح الناخبين بأرقام قياسية (93,3% من أصحاب الحق)، أو بمواقف الهيئات والمؤسسات والمنابر المطالبة بتعميم الإنتخابات على عضوية المجلس الوطني، والتي تعكس إتجاهات الرأي العام الوازن في الشتات...
ستكون القيادة الرسمية مُضطرة (مُرغمة) – والحال هكذا - على تقديم «تعويض» مقنع عن إلغاء إستحقاق الإنتخابات، باستعادة أسلوب الوفاق الداخلي، وتفعيل أدواته، من أجل انفتاح مؤسسات النظام السياسي – وإن بحدود، ودون أن تقع في شرك المحاصصة – على تعددية في التمثيل ترسي معادلة: «شركاء في الدم .. شركاء في القرار» + «شركاء في القرار تعني: مشاركة فعلية ومنصفة في المؤسسات».
إن هذا بالطبع، لا يناظر التغيير الديمقراطي المنشود بالإنتخابات، ولا يقود بالضرورة إلى استعادة الوحدة الداخلية الموطَّدة بالبرنامج المشترك، سياسياً (إستراتيجية العمل)، وتنظيمياً (إصلاح المؤسسات)، لكنه يؤسس – إنتقالياً – لإصلاحات لاحقة، أكثر عمقاً وشمولاً لأوضاع النظام السياسي الفلسطيني، تؤهله من خلال تنقية علاقاته الداخلية، لمواجهة أكثر جدوى للإستحقاقات الصعبة المقبلة في القريب العاجل على شعبنا وحركته الوطنية.
 
 
(3)
الإستحقاقات الصعبة، وما يترتب عليها
مصادر الإستحقاقات الصعبة، سواء القائم منها، أو المقبل علينا، ثلاثة:
تدهور يميني عنصري مريع في إسرائيل، مقيم في السياسة ومتجذر على محور الضم، أو ما يقود إليه.
إستنزاف الأوضاع العربية – مباشرة أو بالعدوى – بمشكلات وصراعات، وضعتها على مشارف الإنهيار الكياني.
إتجاه رسمي عربي متزايد التأثير، للتطبيع مع إسرائيل، والتخلي عن مبادرة السلام العربية – 2002 المبنية على معادلة الكل (إنسحاب من كامل الأراضي المحتلة عام 67 + الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني) مقابل الكل (إتفاق سلام مع إسرائيل + علاقات طبيعية في إطار السلام الشامل).
أما سياسة الإدارة الأميركية الحالية حيال قضيتنا الوطنية، فإنها مازالت تتحرك في إطار عموميات، ما كشف منها مرفوض (مكانة القدس، كما حددتها إدارة ترامب)، حتى لو تغطت بالإفراج عن المساعدات المالية للسلطة + استئناف المساهمة في تمويل موازنة وكالة الغوث؛ وما لم يكشف بعد، يستوجب الحذر، إن لم يكن أكثر. وبالفعل، فبعد أن طويت صفحة سياسة إدارة ترامب، بالأضرار الجمَّة التي ألحقتها بقضيتنا الوطنية، لا نتوقع من الإدارة الجديدة برئاسة بايدن، تغييراً في السياسة المتبعة، يتجاوز حدود سياسات الإدارات الأسبق لإدارة ترامب، التي لم تذهب في التعامل مع صيغة التسوية للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، أبعد من صيغة التعايش بين كيانين: إحتلالي – إستيطاني من جهة، وحكم ذاتي للسكان من جهة أخرى. [هذا، إذا ما استثنينا معايير/ محددات كلينتون التي تقدم بها في 23/12/2000، قبل شهر من انتهاء ولايته الثانية، أي تلك المقترحات التي قرر أنها «إذا لم تقبل، فإنها لن تُزال عن الطاولة وحسب، وإنما تذهب معي أيضاً عندما أترك منصبي». وبالفعل، فقد ذهبت تلك المحددات، ولم تعد إلى جدول أعمال أيٍ من الإدارات التي أعقبت إدارة كلينتون.]
إن هذا التقدير، الذي يستبعد التوصل إلى صيغة ما لتسوية سياسية قابلة للحياة، أي تسوية تتمتع بالحد الأدنى من شروط الإستقرار على قاعدة المقبولية، إنما يؤكد أن الحالة الفلسطينية لا تملك المفاضلة بين استراتيجية وأخرى، فالخيار المتاح أمامها، ولا خيار سواه، هو الذي يقوم على معادلة: وحدة داخلية + مقاومة شعبية + استراتيجية دفاعية، في إطار نظام سياسي جديد. لقد دخلت الحالة الفلسطينية مرحلة جديدة، ستختلف نوعياً، بما تنطوي عليه من خيارات، عن تلك التي سادت حتى الآن، لجهة مايلي: 
أولاً- بغض النظر عن مسار الإنتخابات العامة ومخرجاتها، فإن حالة جديدة ستفرض نفسها على الوضع القيادي الرسمي للنظام السياسي، تقوم على توسيع حيِّز الشراكة الوطنية، من خلال توسيع المشاركة في الهيئات الوطنية المعنية بالشأن العام. إن هذا لا يعني إلغاء الصراع على مواقع السلطة، بل تعديل على أشكال تجليه؛ ولا يعني الإلتقاء على خط سياسي واحد، بل إقتراب أكثر من عناوينه الرئيسية، ومن تكتيكات النضال التي يمليها؛ الخ..
ثانياً- امام الضغط المتزايد لإجراءات الإحتلال ومشاريعه الاستيطانية ضمن استراتيجية الضم المتبعة، وأمام حالة عربية منقسمة بين دول مُطبِّعة، وأخرى مُستغرقة بملفاتها الداخلية، ستتعمق القناعة، أكثر فأكثر، بأولوية الإعتماد على الذات في خوض نضالنا الوطني التحرري ضد العدو الغاصب، إن بأساليب المقاومة النشطة، أو السلبية على غرار المقاطعة، أو غيرها. وفي هذا الإطار، يجدر التوقف أمام واقع قطاع غزة الخالي من المستوطنات، ومن قوات الإحتلال، مع التسليم بواقع الحصار المفروض عليه، لجهة البحث الجاد بتطوير أوضاع بنية ومؤسسات الحركة الوطنية، باعتبار قطاع غزة – كما من المفترض أن يكون – هو بمثابة قاعدة إرتكاز لعموم الحركة الفلسطينية، الأمر الذي لا يتعارض مع الحفاظ على مقومات وعناصر الإستراتيجية الدفاعية، مع استمرار تطوير أدواتها.
ثالثاً- على امتداد الفترة التي اعقبت الإنتفاضة الثانية – 2000/2004، وحتى يومنا، حققت الحركة الفلسطينية إنتصارات سياسية ذات شأن، [ نذكر منها: القرار 19/67 الذي أكسبنا مركز العضوية المراقبة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة + القرارات الصادرة عن الجمعية العامة لصالح تأكيد الحقوق الوطنية لشعبنا + قرار مجلس الأمن الرقم 2334 المناهض للاستيطان الذي يؤكد على مكانة القدس كجزء من الأراضي المحتلة عام 67 + عضوية عدد كبير من المؤسسات والمواثيق الدولية + فتوى محكمة لاهاي بشأن الجدار + عضوية دولة فلسطين في محكمة الجنايات الدولية، الخ..]
على يد هذه الحقائق السياسية الصلبة، بالإمكان تطوير نضالنا السياسي لجهة توسيع الإعتراف بالحقوق الوطنية + تطوير حملة المقاطعة – BDS + تعزيز حملة مقاضاة إسرائيل وملاحقتها على جرائم الحرب التي إرتكبتها، ضمن مفهوم تطبيق مباديء القانون الدولي للمحاسبة على التعدي على حقوق الإنسان + حملة مناهضة الإستيطان + ملف التضامن من أجل الإفراج عن المعتقلين الإداريين والأسرى، الخ.. إن هذه المهام، بما فيها كسر الحصار عن القطاع، ليست مطروحة على الأجهزة الدبلوماسية المختصة فحسب، بل هي أيضاً مهام ملقاة على عاتق الحركة المنظمة داخل تجمعات الشتات الفلسطيني في إطار ما يسمى بـ «الدبلوماسية الشعبية».
رابعاً- بعد انتقال مركز ثقل الحركة الوطنية من الخارج إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة إثر اندلاع الانتفاضة الأولى – 1987، ما شكل – في حينه - نقلة نوعية في النضال الوطني التحرري، ينبغي صونها، توطيد أركانها، وتطويرها، بات بالإمكان إفراد حيّز أوسع للمساهمة النضالية السياسية والعملية للشتات الفلسطيني، الذي يُعيد بناء مؤسساته الوطنية، مساهمة تجمع ما بين بعدي الإسناد والمشاركة في نضال شعبنا في الداخل.
في هذا الإطار تطرح نفسها ضرورة المعاجلة في إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير، بوظائفها التعبوية الشاملة لطاقات شعبنا في الشتات الفلسطيني (بما يشمل أقطار اللجوء، وبلدان المهاجر معاً) بالأشكال المناسبة التي تستوعب التطورات التي طرأت على أوضاع مختلف تجمعات الشتات في العقد الأخير.
إن آفاقاً رحبة تتبدى لاستنهاض حركة اللاجئين تحت راية برنامج حق العودة إلى الديار والممتلكات؛ كما تتبدى أمامنا، في الوقت نفسه، إمكانيات ومجالات عمل واسعة لتطوير أشكال العمل المشترك في الشأن الوطني العام، ضمن مثلث الشتات، وجناحي الوطن في الـ 67 والـ 48، ما يستوجب بذل جهد خاص من عموم مكونات الحركة الفلسطينية لبلورة الأشكال الملموسة التي تؤطر هذا العمل، الأمر الذي لم يتحقق -حتى الآن- بالمستوى المطلوب.
 
*نائب الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

المصدر : جنوبيات