مقالات مختارة >مقالات مختارة
حتى الرمق الأخير - علي زعرور
حتى الرمق الأخير - علي زعرور ‎الاثنين 24 05 2021 13:11
حتى الرمق الأخير - علي زعرور

علي زعرور

سلامٌ على قلب اشتهى وصاله حين تاه قدري ليحط رحاله في مرساه، هذا الذي وضع الإله سر الصداقة فيه وترك المجال لأنسج بيراعي سرد أحداث صديقَين  تناغما حتى الرمق الاخير فكان الوداع حين كتمت وصالي وتركت المجال لدموع تحاكي غصّة الفقدان، أسأل الوجع ماذا دهاك لتنال منه صبرا وتنال مني انسلاخ الروح من الجسد.

تقاربت المسافات بيننا حين التقينا بمفعول الزمن الرجعي في مكان أشبه بالهوية المسجونة بين قضبان الرتابة الإدارية وسجّان الأمر الواقع، حتى بتنا قاب قوسين أو أدنى من الإستسلام له أو القفز فوق المحال لإيجاد الحال. وكان بالفعل ما أردنا حين جمعتنا عشق الكلمة وفرادة المعنى والتغني بالوصف، فكان فؤاد هذا المعجم الذي اخترق رفوف عقلي وأرسى قواعد الضاد بنفحة جمالية من "سيبويه" وفخامة الكلمة ووزنها من "أبو الأسود الدؤلي" ، حيث ولّد فيّ هذا الكم الهائل من الزخم الكلامي، فاستحق بكل جدارة لقب توأم الروح والكلمة.

كان البعد يغتالنا كل يوم، ويعيدنا الصباح حين كان انتظارنا على فنجان قهوة، نحاكي ما فاض وما استتر من عبور يوم زمنيّ تثقله مناوشات بين أشخاصٍ كانوا مجرّد أرقامٍ في حياتنا اليومية، وتأخذنا مجّة سيجارة ننفخ فيها همومنا ومصاعب الحياة. 

يومها كنت ما ازال منفردا برقمي الأحادي، لم يشاركني أحد قداسة الاسم، مترقبا أثناء رفقته لتقاسيم وجهه، سمرته القروية التي جلبها قسرا من الشريط الحدودي، هالته، هدوءه، تواضعه، إيمانه المطلق، صبره الذي كان يتجاوز في كثير من الأحيان صبر أيوب، حتى كنت أحاكيه بعبارة "من أين لك هذه القدرة على التحمل" فكان يجيبني من علاقتي العرفانية برب السماء.

كان أبا مثاليا لعائلة مؤلفة من خمسة أفراد تميل الذكورة إلى طبش بيضة الميزان، لكن جمالية الرقم الانثوي المزدوج كان نور العائلة وفاطم عقلانيتها. حاول فيها اجتراح المعجزات لإضفاء حالة من القدرة على الاستمرار في ظل الزمن الصعب، كيف لا وهو الذي لم تشدّه مغريات الحياة؟! فكانت صفائحه البيضاء عنوانا لنظافة كفّه.

 لم يكن يملك سوى راتبه وسيارة غفا عليها الزمن وبيت إيجار يحكم استقراره العائلي عقد سنويّ مزنّر بمدى زمني محدد.

تبدو مخيفةسرعة الأيام، تجري بنا دون أن نشعر، أخذت معها زهاء عشر سنوات من روزنامة أيامنا. في صفيحتها مزيج من عمل وزيارات متبادلة ومشاوير أقرب إلى الخروج من القمقم لتنفس الصعداء، ناهيك عن مسامرةٍ حتى منتصف الليل على وقعٍ شيّقٍ من الكلام ومنافسةٍ محتدمةٍ بيننا، يستخدم فيها قدرته الهائلة في قواعد اللغة العربية وتفوقي في الصور البيانية. طبعا كانت الغلبة له، فهو استاذ من الطراز الأول، لم يأخذ فرصته في تبوّء المكان الذي يعشقة، إلا في  المرحلة الأخيرة قبل الرحيل الأبدي.

احتفظ كل منا باللحظات المشبعة بالتفاصيل حين كان الإنتقال إلى مكان آخر سيد الموقف وعنوان مرحلة جديدة لن تخلو من جهدٍ لإعادة بناء علاقات بعناوين مختلفة لا يمكن أن تتشابه مع صداقتي الأولى، فكان التواصل المستمر عبر الهاتف هو الذي يعطيني جرعة من اوكسجين الحياة، بعد أن انتابتني فجاعة البعد واحتوتني لهفة المشاهدة.

على أرصفة الذكريات كنا نستمتع باللحظات التي أنجبتها أمنياتنا التي تعثرت بشوق اللقاء، إلى أن غاب صوته عني وكأن السبات أخذه مني وباتت صباحاتي تباغت غيابه. كلمات موصوفة من جعبتي، تردم الهوّة وتبني جسر حضور تبتغيه اللحظة. 

بقيت على منوال اشتياقي، أشهق كلماتي وأزفرها على صفحات لا نكهة لها ولا صوت، سوى صوت مسائي أرقّ مسامعي، يشوبه خفت ضوءٍ وزيت يرشح سقماً، شعرت بأني تسمّرت في مكاني.

"حبيبي فؤاد، ما الذي أصابك، لم أرَ منك غياباً مستداماً، فهل في الأمر مكروه تجرّأ عليك، أو ابتلاء يغلب صبرك؟؟"

أجابني، وفي صوته ضجيج من أنفاس مصطنعة لم اعرفها:" أنا صريع الفراش، تحتلني ماكينة تنفس تضخ فيّ الحياة وأنا أعلم أن نهايتي باتت تهرول إليّ مسرعةً تفرد أحضانها لإشتياقٍ متحرر القيود."

أعدت سؤالاً آخر، فأنا لم أعهد منه أسلوبًا توصيفياً، ربما أراد تبديل الأدوار ليشعرني أنه لا يخشى الفراق والرحيل، "ما الذي أسقمك؟"
أجابني بوضوح الراضي بقضاء الله وقدره، لقد تملّكني المرض، وقطع أنفاسي وبتّ رهينته. يجاملني قليلا ثم يطبق عليّ بقسوّة. 

أعدت إليه الأمل بالحياة، عبر كلمات لم تقنع حتى الأجل المحتوم الذي ينتظره، وبقيت أسترق لحظات عبر كلمات أرسلها إليهعلى شاشة التواصل، يحاول جاهدا الإجابة باقتضاب يُنذر بشؤم مرتقب.

قبل أن يدخل في حالة غياب كليّ، راسلته ذات صباح بكلمات يعشقها: "مختلف هذا الصباح لقد أيقظت ذاكرتي المنسية فبدوت كما أنت حفنة شوق"... "بوصلة قلبي لا تخطئ وروحي زواجل تعرف العروج اليك... "صباحك بحفظ الله"... "ألملم اللهفة من أطراف ملامحك وغيابك قيد شوق"...

هذه الجمل التي كانت يتيمة الإجابة قطعت الشك باليقين أن الأجل قد حان وأنّ الروح ستغادر قريبا إلى بارئها.

دخل صديقي بعدها في غياهب الموت السريري، لم تأخذه الإرادة الإلهية إلا في لحظات مباركةٍ من شهر رمضان ذات ليلة قدر، تجرعت فيها نبأ وفاته وأنا منهك الجسد جراء وعكة صحية صعبة ألمّت بنا، قيّدتني قسراً في منزلي الزوجي، لم أستطع مبارحته زهاء أربعين يوما من ولادة من الخاصرة. 

دُفن صديقي ودَفنت معه أحلامي. لم أكن موجوداً لألقي عليه تحية الوداع الأخير.. أنا أعلم أنه يعذر إرادتي المسلوبة، فما كان بيننا لا يحدّه وداع أخير أو رؤية مغادرة على عجل. 

بقي حتى هذه اللحظة أنيسي في ليل حالك يبتسم لي بومضةٍ من ثغر ويحاكيني بلسان حاله "لا تهجر مضجع كلماتي ولا تتركني بحلٍ من وصفك الممزوج بصلاة الليل ودعاء في لحظة الرهبة، فكان ما أراد الوداع الأخير.

المصدر : جنوبيات