مقالات مختارة >مقالات مختارة
جدّات النصر - علي زعرور
جدّات النصر - علي زعرور ‎الأربعاء 26 05 2021 10:40
جدّات النصر - علي زعرور

علي زعرور

 

هنّ لسن كجدّاتٍ يتبوّأن مقعد الصفر من النصر. فيهن أغدقت كل رموز التاريخ وتمازجت مع ملامحهنّ المنحوتة من صخر الصمود روح الثبات. تزلغط الوطنية على وجوهٍ فيها تضاريس لبنان كلّه، جغرافيته التي تنفلِت من قصاصات العابثين به. وأجسادهنّ متاريسٌ من شجر التين والزيتون والزعترينِ الجبليّ... يخشاها الغزاة إذا ما فكروا باغتصاب شرف الأرض أو تطاولوا بنظرات من خلف السياج على مفاتنهن، التي يختلط شذاها برائحة عبق الأرض وأديم السماء وكلّ ألوان الطبيعة الجنوبية. 

في زحمة الإجتياح، كانت السماء تتعكّز عليهنّ والأرض تمتطي أقدامهنّ، حتى يخيّل إليك أنهنّ جحافلٌ من الزمن الصعب. لم ترتكب أيديهنّ خطيئة الإستسلام عبر رش أرُز أبيض أو رفع وشاحِ ضعفٍ، لم يغيرّن موروثاتهن الجنوبية. فالأرُز يُرشّ لعروسٍ تُزّفّ بثوبها الأبيض، لا لجنودِ احتلالٍ عبروا على شالٍ وثوبٍ مطرزٍ من تقاعس البعض وخذلانه.

على دخان تنّورٍ صباحيّ، وفي باحة دارٍ فيها من الألفة القرويّة ما قلّ نظيرها، تجتمع أم القرى وأخواتها من أسماءٍ كانت في قواعد اللغة العضد والسند، يجتمعن لا لأجل ثرثراتٍ على فنجان قهوةٍ أو حديثٍ عابرٍ لا ينجب أبطالاً، بل تأخذهنّ الحميّة الجنوبية لِلمّ الشملّ وشدّ العزيمة. يجمعن شُتات الجيرة ويضفن إليها لاءات الرفض للهزيمة والخضوع لمجريات الأمور. تِفلُ قهوتهنّ القابع في فنجانِ ارتشافهنّ، يرسم خريطة عدّ العدّة للمواجهة.
تقف أمّ ألقرى، وبلهجتها كأنها خنساء العرب وبطولة الشجعان، تحاكي ضرورة تقديم التضحيات على مذبح الوطن. فالمحتل لا يندحر بتمتماتٍ نسوية، أو وشوشاتٍ صباحية، او حتى  بخشية مكبوتة في زوايا كل دار. تخاطبهنّ لتؤلّبَ عزيمتهنّ "ما بترجع الأرض إذا كل وحدة فيكون خبّت ابنها، أو طلعت على السطح ولفت شقفة بيضا أو  رشت رز عَ المحتل، ما بتظبطش هيك، لازم نفرجي العين الحمرة للمحتل".

بهمّتها المعهودة جمعت أشتات أمهات القرى وحملت ما لا يطاق من الأمر، همّ البلاد، سكبت الأماني في داليات العزم وتمرّدت على توجّس البعض من آلة الدمار القاتلة. في جعبتها شجاعة أخواتها كأنهن عسكرٌ  بأفتك أنواع السلاح، وأيّ سلاحٍ! أصواتٌ تصدح وأيادٍ ترمي حمم الزيت المغلي ولغة إشارةٍ مشفّرةٍ تحاكي فيها أبناءها، تتابع خطواتهم وتضلل العدو كي لا ينال منهم شر الضيم.

استطاعت أن تكتب مخطوطة النصر، في سجلها القروي. تجاوزت الزمن بقفزات فيها آثار نجيع وشهادة، ثمّ وقفت على أعتاب إشتهاءاتها تراقب أيار الإندحار والهزيمة.

 أقفلن بوابة العبور بلا عودة... وقفن جميعا وعلى رؤوسهن أكاليل الغار، يطلقن زغاريد النصر وفي أصواتهن "نحن جدّات النصر لن يكون لكم جدّات مثلنا، إلى أن يدور الزمان، سنجعل انتصارنا مشهديّة، ونعبر لنصلّي سويّةً صلاة العروج إلى النصر الحتمي".
وكان الختام، كلمات صادقة نطقت بها افواههنّ تحاكي واقع الحال "الحمدلله... تحرّرني".

المصدر : جنوبيات