ثقافة وفن ومنوعات >ثقافة وفن ومنوعات
العدالة في شعر محمد مهدي الجواهري
العدالة في شعر محمد مهدي الجواهري ‎الخميس 8 07 2021 11:39
العدالة في شعر محمد مهدي الجواهري

بقلم د. ناريمان محمد فتح الله عساف

شهد العالم العربي في منتصف القرن العشرين تضاربا في الأحداث السياسيّة، أولّها انتهاء الاستعمار البريطاني- الفرنسي، وثانيها نكسة فلسطين، فما بين الانتصار؛ وما بين الانكسار، وقع العقل العربي في هوّة التشرذم؛ وما بين مشاعر العزّة، ومشاعر المذلّة، برزت ظاهرة جديدة في المعاناة الشعريّة التي مرّ بها الشعراء الذين عاصروا هذه الفترة، وما بعدها حتّى مطلع القرن الواحد والعشرين. 
وتتركّز إشكالية هذا البحث في تأدية الشعراء الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري في طرح قضية عدالة  بعض حكام العراق، فهل  كشف الوجه السلبي لأدائهم من خلال بعض النماذج الشعرية له؟
وحيث إنّ هذه القضية في كلّ زمان ومكان تهزّ وجدان الإنسان، إذا ما اختلّ توازنها، فقد طرحها هذا الشاعر بقالب كلاسي، فصيج، كما طرحت من قبل شعراء المدرسة الواقعية، واللهجة العامية؛ لأنّها تحاكي وجع الناس .  
ففي بعض البلدان العربيّة، في منتصف القرن الماضي، سعت الحركات السياسية  إلى تأصيل الفلسفة الماركسية، والتحق بركاب هذا التيار أكثر الشعراء، من أهمهم الشاعر الجواهري؛ فطرحوا في أشعارهم قضايا معتقداتهم، ومن أهمها قضية العدالة المفقودة، وكان  ولكن الفرد أصبح بدون ملكيّة فرديّة، أو كيان ماليّ خاصّ، والنظريّات الماركسيّة ضعفت قدرتها في حلّ  هذه المشكلات، وهذا هو الأمر الذي أدّى إلى فشل الأنظمة التي طبقت  النظام الاشتراكي.
إنّ الشعب العربي عانى من فقدان العدالة السياسيّة والاجتماعيّة، كما أن لعبة كونيّة مدّت أصابعها لتأجيج نار افتقاد هذه العدالة، واستغلالها في قضية الصراع العربي الإسرائيلي؛  ففقدان العدالة لا يبدو فقط في عدم تلبية الحاجات الأساسيّة، والمتطلّبات السياسيّة للإنسان العربي، بل في حرمانه من حاجات اجتماعيّة، أبسطها الأمن والأمان، ونحن نستطيع وضع فرضيات ثانويّة لهذه الفرضيّة، أهمّها:
  -إن  اهتمام الأدب  الشعبي كان منصبّا خلال القرون الغابرة على مشكلات الطبقات الاجتماعية، ارتبط ارتباطا وثيقا منذ القرن التاسع عشر، وحتّى المنتصف الثاني من القرن العشرين بالاهتمام بدراسة الديموقراطية، والقوّة السياسية، ثم تحوّل فيما بعد في الأدب العربي المعاصر إلى طرح قضية العدالة المفقودة ، بعد تشبّع معظم الشعراء العرب بالأفكار الاشتراكيّة، وبعد سيادة العولمة، ويبدو الجواهري شعلة مضيئة في هذ المجال بالرغم من أنه كلاسي أسلوبا، وإيقاعا .
  والفرضيّات المطروحة هي الآتية:
1) إنتوظيفالتراثالأدبيفيتصويروضعالعدالةالاجتماعية،ومكافحةالاستغلالأدّىإلىطرحمصطلحالعدالةبصورةعفويّة لديه.
2) إنالتأثيرالنفسيللشعرفيالمجتمعالعربيأدّىإلىثورةالشعب ورائدهم الجواهري.
3) إنظلمالحكّامالمنصبعلىشعوبهمهوالذيأشعلغضب الشاعر، وإلهامه بالقصائد الخالدة. 
    هذا وقد جعلت هذا البحث في إهداء، ومقدّمة، وتمهيد، ومبحث، وخلاصة، وفهرس.
 
ملامح العامة للمنهج:
    من حيث المنهجيّة، فقد اتبعت المناهج الآتية:  الاستقراء، الاستدلال ، التوثيق، المقارن، ومنهج دراسة الحالّة، علما أن المنهجين الأخيرين، يستعملان في الدراسات الاجتماعيّة، واعتمادهما أتى، لأن هذا البحث يعتمد على كشف صور المجتمعات العربيّة من خلال تحليل شعر العدالة.
   وأساس الاستقراء يعتمد على مسألتين: مسألة المبادئ التي تقوم عليها فكرة المنهج التجريبي، ومسألة الضّمان الذي يؤمّن لنا الانتقال من الحالات الجزئية المشاهدة إلى وضع القانون العام، وهذا ما اعتمدته بعد تحليل القصائد.
أمّا منهج الاستدلال، فقد أستخدمته، عندما كنت أبرهن عن مدى صحّة أو فساد المعنى ، من خلال التّحليل المحصّل، أو الاستدلال ذي الغاية أي التّركيب. 
  وعندما كنت أريد معرفة العنصر المجهول، بوساطة حالة من روابط مع عناصر معلومة، ألجأ إلى: 
-التحليل الباحث الذي يرغم على الإقناع، وهو تحصيل محصّل، يربط القضيّة المعلومة، وقضايا أخرى معلوم صحّتها. والمواقع الإلكترونيّة التي تناولت موضوع العدالة.
-المنهج المقارن: استخدمته  للمقارنة بين لغة الجواهري الكلاسية، ولغة صلاح عبد الصبور الواقعية الحديثة.
علماً أنني اعتمدت الطريقة البنيوية في تحليلي للقصائد،  ولم أهتم بالعودة إلى حياة كاتب، أو مناسبة نص، بل انتقلت من قصيدة الشاعر إلى وصف حالة المجموعة الاجتماعية التي ينتمي إليها، وصولا إلى المناسبة، فركّزت على دراسة اللغة، والصور البيانية، والمحسنات البديعية، والبنى التركيبية، والصرفية والنحوية للنص، ودرست الإيقاع، وزنا، وقافية.
هذه،  وقد اتبعت الترتيب الألفبائي لتنظيم الفقرات، وترتيب الأفكار الرئيسة، والثانوية. 
آمل أن أكون قد وفقت في بحثي هذا، وهو مختصر مفيد لقامة فنيّة، صعب اختصار مسيرتها، أو أثرها، وفي النهاية أتقدم بجزيل الشكر لد. أحمد الزبيدي الكريم،ولمجلة الأديب الغراء، وللأديب رواء الجصاني الذي تكرّم في مركز الجواهري في براغ، وأجاب على أسئلة  مقابلة معه عن خاله :الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري،  وأفاد ابنتي، ومساعدتي د. رفيف أحمد علي، في البحث الرئيس الذي استخلص منه هذا البحث،المدعوم من الجامعة اللبنانية، والذي يحمل عنوان: أوجه العدالة في الشعر العربي المعاصر: الفصيح، والعامي، ولأمين عام إتحاد الكتاب العمانيين، ونائب أمين عام إتحاد الكتاب العرب المهندس الأستاذ سعيد الصقلاوي الذي وصلني بجانبكم، وكان له حصة قيمة في البحث الموسّع، الرئيس، المذكور سابقا.
ولكم مني وللعراق أحرّ التمنيات بالسعادة.  
 
 
 
التمهيد: معاناة الشاعر محمد مهدي الجواهري مع حكام بلاده:
    "محمد مهدي الجوهري (26 يوليو 1899- 27 يوليو 1997)هو شاعر عربي عراقي،  يعتبر من أهم شعراء  العرب في العصر الحديث، تميّزت قصائده بالتزام عمود الشعر التقليدي"( )
عانى كثيرا من نظام الحكم في العراق، في عهد عبد الكريم قاسم، مما اضطره في عام 1961 لطلب اللجوء السياسي إلى براغ، التي وصلها بدعوة رسمية من إتحاد أدباء البلاد، وقد كان في ذلك الحين رئيسا لإتحاد الأدباء في العراق؛.( ) فما كان منه إلّا أن طالب بتوطيد العدالة عبر ترئيس المخلصين، والمفكّرين، والطيّبين، مع محاسبة العملاء، واستبعادهم.
  وللجواهري خمس عشرة قصيدة عن براغ، عاصمة التشيك، وأهلها وطبيعتها ومحيطها... من خلالها يمكن الاستدلال المباشر، وغير المباشر إلى خيال، ووجدان الشاعر الخالد، وإحساسه بما يحيط به،  وعاش في هذه العاصمة الجميلة مايقارب الثلاثين  عاما بصورة دائمة، وأحيانا متقطعة  (1961-1991) ... وكانت مشاعره في أشعاره مبيّنة بوضوح  رضاه على  مجتمع وبلاد التشيكيين، وبخاصة حين تجري المقارنة مع الأحوال السياسيّة لواقع بلداننا العربية ..
و تفيض هذه الأبيات بما كان يكنّه الجواهري لبلده الذي احتضنه حين كان لاجئا ... فها هو يقول مخاطبا براغ، ويقارن مجتمعها بمجتمعه العراقي - العربي: 
"أطلتِ الشوطَ من عُـمْري ...أطالَ اللهُ من عُمرِكْ
و لا بُـلّغـتُ بالشـرّ..... ولا بالسوء من خبَرِك
حسوتُ الخمرَ من نَهَرِك....وذُقتُ الحلوَ من ثَمَركْ
و غنّتني صوادحُكِ النّشاوى من ندى سَحَرِك
ولـم يبرحْ عليّ الظلّ.. بعـد الظلّ من شَجَركْ ...
ألا يا مـزهـر الخُـلدِ تغنّى الدهـرُ في وَتَـركْ
و يا أُمثـولـةَ الـلـطـفِ....مشتْ دنيا على أثَرِك
ذكا في تربك العِطْرُ...ودبّ السحرُ فـي حَجَركْ
فلو صيغت دُنىً أخرى...لما كانتْ سِوى كِسَرك... 
هلمي خالطي بشري، تفري انتِ من بشرك !!!!( )
 
 
أ: وجه العدالة الغائب في شعر محمد مهدي الجواهري: 
1: فقدان العدالة في العراق في الستينيات : 
العدالة كانت هما كبيرا بالنسبة للجواهري، وانعدامها في بلاده كان سببا وراء هجرته ،في اي ديوان برزت هذه المشاعر ؟
 
وحسبما جاء على لسان الأديب "رواء الجصاني"( )الذي قابلته ابنتي د. رفيف علي في مركز الجواهري في براغ في عام2016 ما يأتي: 
"إن الجواهري بقي أكثر من سبعة عقود، يؤرخ ويوثّق هموم شعبه العراقي وأمته، وربّما  كان في قصيدتي: "المقصورة" و"تنويمة الجياع" ما يشير، ويؤشر لحال العراق وشعبه في الأربعينيات الماضية:
وقدشكلت حياة الشاعر محمد مهدي الجواهري صورة بارزة عما عاناه الشعب العراقي في فقدان العدالة الاجتماعية، ومن أقواله في هذا المجال:
 
ألا من كريم يسر الكريم، بجيفة جلف ٍ زنيم عتا
فيا طالما كان حد البغي ، يخفف من فحش أهل البغا
انبيك عن أطيب الأخبثين، فقل أنت بالأخبث المزدرى
زقاق من الريح منفوخة ، وان ثقـّـل الزهو منها الخطى
وأشباح ناس ، وإن أوهموا ، بأنهم "قادة" في الورى..."( )
 
إن أداة التحضيض ألأ مع صيغة التساؤل تشكلان عاملا تحريضيا للانتقام من السياسيين اللئام الذين تجبّروا وظلموا. أما أداة النداء التي لحّقت بما الكافّة، فقد اعطت زخما تعبيريّا يفيد ضخامة واستمراريّة الحدث.  فمن المتعارف عليه أن قتل البغاة يحدّمن فحشهم،  وقد عملت الموازنة، والطباق على تأكيد هذه الفكرة :(كريم، كريم،زنيم).
  وباللهجة الخطابية المحرّضة، وبجملة فعلية يتصدّرها الفعل المضارع" أنبيك"، يعرض لنا الشاعر صورة للسياسيين معروفة، وقد أفيد عنها بفعل  الأمر الموجه للقارئ، طالبا منه الكشف عن الخبيث الذي لم يعد يحتمل. 
  أما البيت الرابع فقد تصدرته جملة إسمية ترسم صورة لزقاق فيه ريح منفوخة بزهو الحكّام الذين يحدّون من تطوّر الوطن، ويعطف على هذا البيت صورة توضح واقعهم، فهم أشباح ناس، وقد أفادت الجملة الشرطية:" إن أوهموا، مع جوابها: بأنهم قادة لكل الناس، بأن الشعوب هي المسؤولة عن هذا الوهم فهي التي تعظمهم، وتنفخهم.
إن التأكيد أوضح وصف صورة السياسيين: ( كريم، كريم، ( البغي، البغا)، ( الأخبثين، الأخبث) (منفوخة، ثقّل، إن، إن بأن) أيضا تمّ التأكيد من خلال حروف النبر: الجيم في كلمة بجيفة، الباء  في كلمة البغي،والأخبثين، والأخبث. هذه الحروف مع وزن المتقارب، والقافية، شكّلت إيقاعا منبها، ومحذرا للحكام، وللشعوب من طغيانهم. 
ومن أبرز القصائد، التي تشرح قضية العدالة المفقودة، قصيدة "تنويمة الجياع" المحرّضة بصيغة الاستخفاف، يقول الجواهري فيها:
" نامي جياع الشعب نامي ... حرستك آلهة الطعام ِ
نامي فان لـم تشبعي من يقظة.... فمن المـنام..
نامي فان الوحدة العصماء تطلب ان تنامي 
ان الحماقة ان تشقي بالنهوض عصا الوئام 
نامي فان صلاح أمر فاسد في أن تنامي"
 
في هذه القصيدة "عاد المتنبي في الجواهري، شموخا، كبرياء، وإباء، وعنفوانا طاغيا، وحلاوة في التعبير، وسلامة ما بعدها سلاسة، فاستحقّ المجد كلّ المجد، إنّه الخلود الذي ما بعده خلود"( ). 
" وفي عام 1962  جاءت نونيته " يا دجلة الخير" الشهيرة لتوجز صورا ووقائع عن الحال العراقية آنذاك... 
يا دجلةَ الخير: ما يُـغليكِ من حنَقٍ، يُغلي فؤادي، وما يُشجيكِ يشجيني ..
أدري بأنكِ من ألفٍ مضتْ هَدَراً، للآنَ تَهْزَين من حكم السلاطين ..
لعلّ يوماً عصوفـاً جارفاً عَرِماً، آتٍ فتُرضيك عقباه وترضيني( )
إن صيغة النداء، وتكرار اسم الموصول (ما) مع الموازنة في: ما يغليك، وما يشجيني، بالإضافة إلى الإيقاع،  وخاصة القافية الحزينة، عملت على إعطاء صورة حزينة اندمج فيها وجدان الشاعربحال العراق.
وتصدّر البيت الثاني فعل مضارع يحمل بحروفه، ودلالته إصرارا، وتأكيدا على المعاناة التي تعصف بالشاعر، وبوطنه منذ أبد بعيد عبّر عنه بجملة ألف مضت، وأُكدت فكرته بظرف الآن.
 
2: فلسطين هي بوصلة النضال، ومركز انخساف العدالة: 
إن قضية فلسطين شغلت معظم الشعراء العرب، وأوّلهم الجواهري .
هذا ومن خلالالأجوبة على  الأسئلة التي  طرحتها  د. رفيف علي على أ.  رواء الجصّانيبرزت لدينا مشاعر مواطن مخلص عربيّ، تحسبه فلسطيني : 
فكما يظن الأدديب رواء، فإنّه" من الصعوبة بمكان تجزئة المشاعر والاحاسيس في قصائد الجواهري، فضلا عن المواقف بالطبع، في ان تكون عراقية،أو ،عربية، أو انسانية عامة... من هنا يستطيع الباحث والمتحري أن يجد انعكاسات متداخلة حول همومن ومعاناة شعب العراق، وشعوب البلدان العربية الاخرى، والفلسطيني بشكل أبرز ...
 وأذا ما شئنا التخصيص، فأن الشاعر العظيم كتب قصيدة عن فلسطين عام 1929: 
سيُلحقون فلسـطيـنـاً بـأنـدلـسٍ، ويَعْطفون عليها البيتَ والحَرَما
ويسـلبونَكِ بـغـداداً و ((جـلّـقـةً))ويتركونَك لا لحمـاً ولا وَضَمـا
جزاءَ ما اصطنعت كفاك من نِعمٍ، بيضـاءَ عـند أنـاسٍ تَـجـحـد النـعـمـا...
يـا أمـةً لخصـوم ضـدّها احتكمت، كيف ارتضيتِ خصيماً ظالمـاً حكما
بالمدفع استشهدي إن كنت ناطقةً، أو رُمْتِ أن تُسمِعي من يشتكي الصمما
وبـالمظـالـمِ رُدي عنـك مظـلمـةً، أو لا فأحقرُ ما فـي الكون مَنْ ظُلِما
سلي الحوادثَ والتأريخَ هل عرفا، حقـا ورأيـاً بغـير القـوةِ احتُـرما
 
إنه الاستشراف، سيد حدس الشاعر، إن سين التسويف التي تصدرت البيت الأول قبل فعل المضارع "يلحقون"، معطوفا على يعطفون، ويسلبون، ويتركون في البيت الثاني أفادت ما سيجري في المستقبل،  وحركة الأفعال المعطوفة  كانت في تطوّر يشابه تطوّر الأحداث التي ستتم في السنين المقبلة. 
واللوم كلّ اللوم يقع على المواطن العربي جراء ما اصطنعت كفاه من نعم، قدمها لحكام يجحدون النعما، وهذه اللهجة الخطابيّة التحذيريّة، التنظيريّة، التيطبّقت، تفيد أن  المواطن الذي سمح للحاكم العربي بالاستبداد، سيكون سببا لكل المآسي التي ستتم.
لقد بيّن الشاعر أسباب كلّ المصائب التي ستستجدّ، فهي خصومة الدول العربية (يا أمّة الخصوم) والتأكيد من خلال صيغ الاستفهام: كيف ارتضيت؟ والأمر: استشهدي، ردّي، ) والحقل اللغوي : مظالم، مظلمة، ظلما .
هكذا كتب، وكأنه يتنبأ بما سيحصل... وقد تحقق ذلك التنبؤ، وبعدها راحت قصائد الجواهري تتلى في مناسبات وعقود تالية، لتتحدث وتوثق، وتؤشر للحال الفلسطينية، ومن بين هذه وتلك قصيدته "يا أمتي" عام 1968 ومما جاء فيها: 
لَمْ يَبقَ عِنْديَ مَا يَبتزّه الألَمُ، حَسْبي مِنْ الموحِشَاتِ الهَمّ وَالهَرَمُ
لَم يَبقَ عِنْدي كفَاءَ الحادثاتِ أسَىً، وَلاَ كفاءَ جراحات تَضجّ دَمُ
وَحينَ تَطغى عَلى الحرّان جَمَرتُهُ، فالصمت أفضل ما يطوى عليه فمُ
وَصَابرينَ عَلى البَلْوى يُرَاوْدهم، في أن تضمّهُمُ أوْطَانُهمْ حُلمُ
تذكروا عَهْدَ بلْفور، فَقلتُ لهمْ، ما تستجدّونَه عَهْدِي به القِدَمُ
مِن قبلِ ستينَ مِنْ خزيانِ مولدهِ، أقمتُ مَأتَم أرضٍ قدسُهَا حَرَم"
وكل ذلك على سبيل المثال لا الحصر( ) .
3: تضامن مع دول عربية  ناضلت من أجل إحلال العدالة: 
وما استشفيناه من السؤال الآتي:
-هل كانت نار غضبه منصبة على الحكم في العراق فقط، أم أنهاانصبت على الدول العربية، وبشكل خاص بسبب مواقفها من احتلال فلسطين،وفي أي ديوان برزت هذه المشاعر؟
 قصائد عديدة عن نضالات وحال شعوب عربية عديدة، ومنها عن معركة بور سعيد المصرية عام 1956:
(كنانة الله..) اسلمي، إنّ المُنى دونَكِ لغوٌ.. والحياةُ باطلُ
يادارةَ المجدِ مشت رواعدٌ، للغدرِ فيها.. وارتمت زلازل
لا تهِني.. وإنْ أغذّ عاجلٌ، للخيرِ.. واستأنيْ بخيرٍ آجل
(كنانةَ الله) سيجلو عاصفٌ، ويَمّحي ضرّ.. ويُثنى واغل
كم غاص فـي رمالكِ السُمْرِ غَوٍ،غازٍ.. وكم ديستْ بها جحافل
وكم مشتْ من فوقهم مزهوّةً، تحدو ركابَ العزّةِ القوافل
خطّ (أبو الهولِ) لها مصايراً، تعـرفه الأغـوارُ و المجاهل
الصامتُ الواعي.. يرى آجالها، تدنو.. فيستهزي بما تحاول
ذابوا وظلّ النيلُ يجري صاخباً،وظلّ مُنداحاً عليه السـاحلُ( )
 
بعد ندائه مصر بكنانة الله، استحضارا للقول المأثور:" مصر كنانة الله في أرضه" استهلّ خطابه بالدعاء لها، فقال: اسلمي، وفي البيت الثالث أمرها بألأّ تهن،وتمنى لها الانتصا، وسيادة العدالة.
 ومع كون الشاعر كلاسي المدرسة، نحن نجد رمزا تعبيريّا في قصيدته هذه، إنه أبو الهول، الشاهد الخالد على حضارة وانهزام ، واندحار كلّ محتل، وغادر. 
وعن الثورة الجزائرية عام ... ومطلعها:
(جزائرُ) يا كوكبَ المشرقيـن .. دجا الشرقُ من كُربةٍ فاطلُعي
ويا عَقِبَ العَرَبِ المُغرِبين.. أعيدي صدى (عُقبةٍ) تُسمعي
أجدّي عهوداً عفتْ وابعثي .. نوافحَ من سِفرها المُمتع ..
(جزائرُ) يا جدَثَ الغاصبين .. بُوركتِ فـي الموت من مربع
ويا نبعةَ الصُبُرِ الصامدين .. لوتهـا الرياحُ ولـم تُقْطَع
تعاصتْ فلم تُعطِ من نفسها .. لنكبــــاءَ مجنـونــةٍ زعزع
ثِبي.. فمناطُ رجاءِ الشعوبِ .. وموتُ الطواغيتِ أن تُفرِعي
لقد مثّلت الجزائر بالنسبة للشاعر كوكب المشرقين، ونبعة الصبر، الصامدة التي استطاعت الانتصار، ورد المستعمر، والقضاء على الطواغيت الظالمين.
 وهنا من الضرورة القول بأن ما جاء من ابيات في قصائده ذات الصلة، انما هو تعبير ذاتي، ولكنه يشمل ويعكس معاناة شعب وامة، كما سبقت الاشارة ( ).
"اما في السبعينيات، فثمة قصيدة للجواهري يخاطب فيها المتنبي، وقد تكون صالحة لتأشير وضع الأمة، وبعض معاناتها، ومن ابياتها:
 
حلفت أبا المحسد بالمثنى، من الجبروت والغضب المُعانى 
وبالسلع النوافر في عروق ٍ، كأن بكل واحدة سنانا 
بأنك موقدَ الجمرات منا، وان كُسيت على رغم ٍ دخانا 
وانا أمة خلقت لتبقى، وانت دليل بقياها عيانا
 
كتب الجواهري في براغ العديد من القصائد التي يمكن للمرء ومن خلال قراءة مطالعها، وعناوينها أن يشعر بمعاناة الشاعر الخالد، و"هي كلٌ  متشابك مع هموم بلاده، وأمته... ومن بين تلك القصائد: "يا غريب الدار" التي كتبت في عام : 1962، ، وكذلك قصيدته " سهرت طال شوقي للعراقِ" عام1967: ".
   وهذه الشخصيّة البارزة التي ترجمت كتبها إلى اللغة التشيكيّة، وغيرها، وعلّقت صورها في المقاهي الراقية التي كان يرتادها صاحبها قبل موته من مثل مقهى سلافيا، وكان لها أثر بارز في منحى موضوع العدالة، فتبعها مظفر النّواب، وبدر شاكر السّيّاب، وعبد الوهاب البياتي وغيرهم ممن عانوا الأمّرّين من حكّامهم. في طريقة التعبير، ولو اختلفت المدارس الفنيّة التي اتّبعوها. 
 
 
امافيالسبعينيات،فثمةقصيدةللجواهرييستحضر فيهاالمتنبي،ليبرز وضعالأمة، ومعاناتهامن انخساف العدالة، ومنأبياتها: 
حلفت أبا المحسد بالمثنى، من الجبروت والغضب المُعانى 
وبالسلع النوافر في عروق ٍ، كأن بكل واحدة سنانا 
بأنك موقدَ الجمرات منا، وان كُسيت على رغم ٍ دخانا 
وانا أمة خلقت لتبقى، وانت دليل بقياها عيانا
 
4: تحذير الحكّام من طغيانهم: الأنموذج قصيدة "عبد الحميد كرامي"
 
 في قصيدة "عبد الحميد كرامي" يقول الشاعر محمد مهدي الجواهري:
 
         " قلنا لهم إن الشعوبَ مُنيخةٌ
                                    أبدًا ، وحكّامُ الشعوب سَفار
           قلنا لهم أن النبيَّ محمّدًا 
                                   يأبى الخنى ، والواحد القهّار
            قلنا لهم أنّ البياضَ لشحمةٌ
                                    واللّيل ليلٌ ، والنهار نهار"( )
     بأسلوب اللوم الذي يُوحي إليه فعل "قلنا" الذي تكرّر ثلاث مرّات في المقاطع، أدخلنا الشاعر "محمد مهدي الجواهري " الى جوّ المعاناة التي عاناها في بلده العراق، من جراء  تأييده للحزب الشيوعي، لتبيان موقع العدالة، وأين تتحقق، علمًا أن فعل قلنا تكرر في القصيدة قبل هذا المقطع مرتين .
     ومن المرجح أن الشعوب التي يقصد الكلام عنها، هي الشعوب العربية التي تخضع  للحكام، وقد عيّن تاريخ خنوعها، فكان الأبد، فالصورة تتكرّر، والحكام دائمًا غائبون عن معاناة هذه الشعوب التي تكرّر لفظها مرتين في البيت، وما أكد هذه الفكرة الصفة التي أتت على صيغة فعال، التي تشعرنا بديمومة السفر.
     وهذا الواقع المقيت للعدالة المفقودة " يرفضها الدين الإسلامي " ممثّلا بالرسول محمد صلعم، لأنه يكره ويرفض الفحش في الكلام، ولا يخشى الحكام، بل الله وحده القهّار ويدعو إلى حسن الكلام والنقاش.
     يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز : } أدع إلى سبيلِ ربّكَ بالحكمةِ والموعظة الحسنةِ{ ، } والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم { ، إذًا العدالة في الدين الاسلامي ، إذا لم يحققها الحاكم ، على الشعوب المطالبة بها، وعدم السكوت على الفساد.
     ومع تكرار فعل " قلنا " التحذيري، وتوضيح الأمثلة التي كان يطرحها الشاعر، وهو يفصح الطريق التي تحقق العدالة .
     فلا مجال لخلط الأوراق، والكنايات التي تكرّرت : " البياض شحمةٌ ، والليل ليلٌ والنهار نهار" دلالة على أن العدالة إما أن تكون أو لا تكون.
     وتحمل معانٍ مختبئة يكتشفها القارئ، فالطباق بين الليل والنهار، مع وصف البياض بالشحمة القابلة للذوبان – في حال انقضت العدالة – بالإضافة إلى الخبر ليلٌ، والخبر نهار، أعطت التأكيد على معنى سبقها، وهو رفض الرسالة الإسلامية مذلة الشعوب، وقهرها من قبل الحكّام، لأن الله وحدّه القهار .
     فالحرية هي باب للعدالة، لأنها تعطي فسحة للتعبير عن أوجاع الشعب، فيلتفت الحاكم إلى أخطائه ويصححها؛ ولكن أين هي معاناة الشاعر مع حكّام بلاده؛ لقد أتى جوابهم مناقضًا لكل هذه المعاني :
 
  " فأتى الجوابُ لنا بأنّ نهارَكم
                                        ليلٌ ، وأن عشيرَكم كُفّار
            وإذا أبيتم فالجريمةُ أنّكم
                                        للبلشفيّة ، بيننا أنصار( )
جملتان فعليتان في الزمن الماضي يبتدئ بهما هذان البيتان الشعريّان؛ فالجواب نفسه، وهو ثابت لا يتغيّر، معرّف وموجه للشاعر، ورفاقه المناهضين لخنق الحريّات، وفيه التهديد الذي كشفته الطباق : نهاركم ليل، وكأننا نسمع : الويل لكم الويل، خاصّة بعد الجملة المصدريّة ( إن عشيركم كفار ) التي تشعر بخطورة رفاق الشاعر الذين يتكلّم بالنيابة عنهم ،من خلال فعل " قلنا "، وما ينطوي على أفعال حصلت، تعبّر عن مواقف حقيقية وليس خطابا.
     ويتابع الشاعر في البيت الثاني في شرح خطاب الحكّام الموجّه إليه وإلى رفاقه، فالتهديد يبرز مع ( إذا ) أداة الشرط التي تلاها فعل ( أبى ) الذي أتى بصيغة الماضي، وموجه لجماعة للتعبير عن أن الحدث كان ماضيًا، والتهمة برزت من خلال عبارة (للبلشفيّة بيننا أنصار) .
     إذًا التهمة خطيرة، وإذا أبى أنصار الشيوعيّة الاختفاء،فمصيرهم الموت الذي عبّر عنه بعبارة (نهاركم ليل )، أو الرحيل، لأنّ الكفار لا يمكن أن يعيشوا دون أن يحاسبوا في ذلك الزمن.
     أخيرًا يردّ الشاعر على الحكّام بقوله، إنّ أحكامهم خاطئة، وإنه ورفاقه بريئون من التهم التي تُكال إليهم.
 
          " يا أيّها المتحكّمون ، وإنّنا 
                                       ودماءَنا مثل البهيم جُبارُ( )
 
الأسلوب مباشر ، وموجّه إلى جماعة تحكّمت، وحكمت بدون رضى الشعب، ويوضح هذا فعل (تحكمت ) المضعّف، وجملة ( وإننا ودماءنا مثل البهيم جُبارُ )،أيضا توضح الحكم الذي صدر بحقهم، فاستباح دماءهم البريئة من التهم، وواو العطف التي تكرّرت ، تؤكد على أن القتل كان يأتي بعد الإعتقال.
     والانفعال من هذا الوضع، جعل الشاعر يوضح بتعبير واضح ، وليس فيه غموض، أو رموز، فكلمة ( للسالخين ) توحي بالمستعمرين، أو بالعملاء والوصوليين والحسّاد:
 
          " قولوا الصحيح : سنستبيحُ جلودَكم
                                                للسالخين لأنّكم أحرار"( )
     إذن المطالبة بالحريّة ، ومحاربة الاستعمار وأزلامه هي التهمة،
                     فأين العدالة ؟
     مما سبق يستنتج أن الحرّ يجب أن يحكمه حرّ، ممّن حرّر البلاد من الاستعمار، فمثل هذا الشخص يعرف قيمة البلاد، ويعمل على إرساء العدالة بين أفراد أمته، فيعطي كل ذي حقّ حقّه، ويكافئ المناضلين.
     ومن هذا المنطلق يستحق هذا الحرّالإطراء والمدح، لأنه اقترب من نقطة يصعب الوصول إليها. فالله وحده العادل، وتعاليمه هي التي تدعو إلى العدالة، وإلى الحفاظ على احترام النفس الذي لا يأتي إلا بصون الأرض والكرامة.
     والشاعر محمد مهدي الجواهري،أوضح أنه ورفاقه ناصروا تعاليم الاشتراكيّة الداعية إلى المساواة بين البشر، لأن حكّام بلاده ابتعدوا كثيرًا، واشتاطوا، ولم يحققوا من تعاليم الدين الإسلامي قيد أنملة.
     والمساواة بين البشر تقتضي إنصاف من ضحى في سبيل الحرية، وناضل من أجل كرامة الشعب، سواء كان زعيمًا أو مفكرًا.
من هذا المنطلق وجد الشعر محمد الجواهري أن الواقع السياسي لا يحترم نضال الشرفاء، ويرئس العملاء.
 
5- غياب العدالة مع ترئيس العملاء:
     يشرح الشاعر محمد مهدي الجواهري كيف انقلب وجه العدالة مع عدم مكافأة المناضلين، ومحاربتهم من قبل المستغلين الذين بنوا القصور على حساب نضال الشرفاء فيقول :
 
 " وتخرّبت – لتسدَّ أجواز السما
                                            تلك القصورُ، من الجموعِ ديار
    وتساءلوا فيمَ استجدوا ثورةً
                                            وعلى من امتشقوا الحسامَ وثاروا "( )
     من خلال أربعة أبيات جرت فيها مقابلة بين وضع العملاء الاجتماعي الذي أصبح في مستوى رفيع، ووضع الثوار أيضًا الاجتماعي الذي تدهور، أبرز الشاعر فيه التناقض المريب الذي وصل إليه المجتمع.
     في البيت الأول توخّى الشاعر الشَرطة ليأتي بجملة تفسيريّة، وكأنه بهذه الوسيلة يترك للفكر التوسع في التصوّر؛ فالقصور ارتفعت، حتى جاورت الأبراج مقابل خراب ديار الشعب، فالثلّة العميلة سَحقت مجمل الشعب الذي عبّر عنه بكلمتي جموع – ديار بالصورة المجازيّة في لـ ( تسد أجواز السماء ) التي تدلّ على الجبروت خاصة في فعل تسدّ المضعّف، فنشعر بسدّ أبواب العدل. فهل هذه عدالة؟
     وتابع بوصف النعم التي أغدقها المحتل على العملاء، فتوخّى أيضًا الطباق، الحرير ≠ والأطمار. لأن المناضل هو الذي مهد لهؤلاء طريق النعم؛ استفاق هذا المخدوع فجأة، ليسمع هاتفًا، والهاتف هنا تعبير عن الأفكار التي تراود الشعب، وصورة المخدوع أسندت إلى الوساوس التي راودته، وقد كني عنها بين هلالين بصورتين : " خفّ الهوى، وانقضّت الأوطار". لقد نقص حب الوطن، ولكن عند من ؟ بالطبع عند العملاء، هذا ما فسّره حرف العطف (الواو) الذي أفاد بالمتابعة، مع مزيد من التصعيد في الفعل، فقد تحقّقت المآرب، وتربّع المتطفلون على عروش مراتبهم.
     وهنا تساءل الناس المخدوعون عمّا استجدّ بعد الثورة، ولماذا حاربوا وثاروا، إن أفعال استجدوا، امتشقوا وثاروا أفادت عن نضالهم المرير، أما استبدال صيغة المفرد بصيغة الجموع، فيعبّر عن توحيد المعاناة، والتساؤل الكبير أوضحه حرف الجر (على ) المضاف إلى الاسم الموصول ( من ) :
 
   " وأفاق مخدوع ليسمعَ هاتفًا
                                         وخفّ الهوى وتقضّت الأوطار
            وتساءلوا فيمَ استجدّوا ثورةً
                                         وعلى من امتشقوا الحسامَ وثاروا( )
     وتتتالى التساؤلات في ثلاثة أبيات، تصدّرت بأداة الاستفهام ( أ )، مضافة في أول بيت إلى حرف الجر ( على ) الذي يفيد الاستعلاء، وفي البيت الثالث مضافة الى (أجل ) حرف الجواب الذي يفيد الإثبات.
     وبعد الاستفهام الأول ترد كلمة السامري بعد كلمة الدخيل، لتدخلنا في جو التاريخ والقصص الديني، وصورة العجل الذي أغوى اليهود فعبدوه :
 
    " أعلى الدخيلِ السامريّ، ومثله
                                              وأمرُّ منه عجله الخوّار( )
     والمقابلة في هذا البيت اتت بين الصدر وبين العجْز موسيقيّا. فالصدر يَعمُّه صوت الكسر، بعكس العجزالذي يسيطر عليه صوت الضم المفخّم؛ فتأتي الإنكسار حين دخول السامريّ الذي أضاع اليهود عن صوابهم، والكفر استجدّ مع الاندماج بجو سيطرة الشياطين وعبادة العجل، وصفة العجل (الخوّار)، رسّخت هذا الجو من حيث صداها المتأتي من التضعيف في صوت ( و)، والتفخيم في حرف ( ر) .
     ويتساءل الشاعر على لسان الثوار، وبصيغة المخاطبة التي أعطت القصيدة الحيوية: لأجل من ؟ لأجل من ناضلوا، أين العدالة التي تنصفهم، وتعطيهم حقهم ؟ 
 
          " ألأجل أن يُسقى الطغاة دماءهم "( ).
     إذًا العدالة افتقدت، كما أن الفاعل افتقد في الشطر السابق، لأنه مجهول، وأتى فعل يسقي مبنيًا للمجهول، وبصيغة المضارع التي تفيد الحاضر والمستقبل والحيوية في تكرار العمل؛ فالمستفيدون كثر، والأمّة العربيّة دائمًا مبتليّة بهم، وبعد التوسع في شرح الوقائع التاريخية يأتي على ذكر ترسيخ الوجه القبيح للعدالة  وهو غيابها:
 
 " فسرعان ما خفق اللواء وشرّعت
                                              نظمٌ، وقامت دولة وشعار
            الجورُ صُلْبُ كيانها، ونظامُها
                                               الإقطاع، والإذلالُ، والإفقارُ "( )
6-  العدالة في انصاف المناضلين، وترئيسهم:
     والعدالة تقتضي أن يسير الشعب على نهج الثوار، ويحافظ بأجمعه على ثمار دماء الشهداء، لا أن يستغل أحد منه هذه الدماء لمصالحه الشخصية، وهنا ينقلب وجه العدالة إلى طرف آخر.
     فالشاعر محمد مهدي الجواهري يعبّر عن هذه المعاناة فيقول :
          " ألقى لنا المستعمرون عصابةً
                                          كانت تضمُّ شتاتهم أجحارُ "
     فهؤلاء المستعمرون عرفوا كيف يثأرون من العظماء، فألقوا الجواسيس، والطامحين الى المجد على حساب كرامة الأوطان، الذين أصبحوا في عداد الحكام، مع أنهم حثالة ، وفعل ( ألقوا ) يدلّ على هذا المعنى، متآخيًا مع كلمة (عصابة)، وكلمة ( أجحار )، وهي جمع ( جحر )، ومن المعروف أن الجحر يضم الحشرات والزواحف، وهذا ما رمى إليه الشاعر، فشبه العملاء بهذه الكائنات.
      في قصيدة "عبد الحميد كرامي" يستغل الشاعرمحمد مهدي الجواهري فرصة إلقاء قصيدة عن زعيم معروف بمناسبة حفل تأبينه، ليذكر أن عدالة السماء ترسل الزعماء المخلصين، لكي يخلصوا شعوبهم من الظالمين، ولكي تبقى ذكراهم منارة يهتدي بها الحكام والمحكومون.
" ومزيّة الزّعماءِ أنَّ حياتهمْ
                              خصْبٌ وأنّ مماتَهم إِثمارا ( )
     وبسرعة البرق يلتفّ الشاعر إلى مرمى فرسه، فهو يبحث عن هذه الفرصة التي تتيح له البوح، وكشف الحقائق التي لا تسرّ، فالأجانب مسلطون على الشعوب، والصحافة بلا ضمير، والعملاء آثامهم تترك أثرها في كل مكان، والعدالة لا تتحقق إلا متى أهدى الله البلاد زعيمًا نقيًا، مخلصًا، شريفا :
  " أهداكه إِذ فرَّ جحفلُ غاصب
                                      جيشٌ لآخرَ غاصبٍ جرّار
       وبدا يزحزح عن سماك مذنّبًا
                                      رجْمٌ سواهُ مذنَّبٌ سياّر
 
     إن فعل أهدى ألصق بهاء الضمير، (المفعول به، المضموم )، الذي أعطى صيغة التفخيم، وهو عائد إلى وطن، عظّمه الشاعر بهذه الطريقة، تُبع بأداة الشرط غير الجازمة التي أفادت لحظة الحدث، حين فرّ المحتل، الذي مُثِّل بالجحفل -الكلمة الدّالة على الجموع – والتي نعتت بالغاصب، ثم أتت جملة إسمية بصورة معبّرة عن الجيوش التي تحتلّ بصورة تراكميّة ، وكرّر حرف الجيم ثلاث مرّات في البيت في كلمات، تعتبر حقلاً لغويًا للجيش.
     وبدا الزعيم عبد الحميد كرامي في البيت الثاني ماردًا ، يزحزح عن سماء لبنان مذنبًا رجيمًا ضمن سلسلة مذنبات، يحكمها مذنبٌ سيّار، وقد بدت الصورة محلّقة من حيث الخيال، حقلها اللغوي دلّ على نقل الضغط الذي أحدثه الاحتلال، الممثّل بـ (المذنب): الكلمة التي تكرّرت مرتين، وقد تصدّر البيت فعلان هما :  بدا ، ويزحزح: الفعل الماضي بدا تبعه الفعل المضارع (يزحزح )، مفيدًا بالحركة الدائمة حاضرًا، ومستقبلاً، لأن فعل الأبطال يظلّ مزروعًا في مسيرة الشعوب، أمّا عن وقع الحروف، فكان في نقل الإحساس من خلال : التدرّج من الحروف الشفوية إلى الحلقية، مع تكرار حرف السين ثلاث مرّات في البيت : سماك – سواه – سيّار.
 
7:العدالة الإلهية في إرسال المفكرين: الأنموذج: قصيدة أبو العلاء المعري
 
في معرض الحديث عن العدالة الإلهية يقول الشاعر :
   لثورة الفكر تاريخٌ يحدِّثنا
                                         بأن ألف مسيحٍ دونها صُلبا ( )
     وهذا البيت هو مدخل لحكم يليه، وقد بوّبه الشاعر بلام الإبتداء، وفي تاريخ الأمم، لا بد من مضحِّين " وقد ابتدأ الشاعر بتشبيه بليغ في هذا البيت ، فقد شبه الفكر بالتاريخ الذي يحدّث الشعب، بأنه خلال التحديث الفكري لا بد من ضحايا وعبارة ألف مسيح هي رمز للضحايا. 
     ثم يتابع الشاعر في وصف الشيخ أبي العلاء المعري وأعماله الفكرية العظيمة .
     وفي قصيدة  " أبو العلاء المعري "( ) يتكلّم الشاعرمحمد مهدي الجواهري عن العدالة الإلهيّة؛ ومن العدالة الإلهية التي عوّض أبوالعلاء المعري بها  عن بصره الحكمة، والشعر اللذين يتفوّه بهما، فينير طريق الفكر التنويري.
ويتابع قائلا:
 
" إن الذي ألهبَ الأفلاكَ مِقْوَلُهُ
                                         والدَّهرَ لا رغبًا يرجو و لا رهبا
            لم ينسَ أن تشملَ الأنعامَ رحْمتُهُ
                                          ولا الطيورَ ولا أفراخها الزّغُبا "
    البيت الأول المبوّب بـ أن ( الحرف المشبه بالفعل الذي يفيد التأكيد)، أكّد أن العدالة الإلهية تكون في توزيع النعم، لارغبة، ولا خوفًأ، فالله سبحانه وتعالى عُرّف بالاسم الموصول (الذي )، لكي يكتشف القارئ الفاعل من خلال الصورة البيانية  : (ألهب الأفلاك والدّهر بأقواله)، والتأكيد على هذه الفكرة تكرّر أيضًا من خلال ( لا النافية للجنس) التي كرّرت أيضًا. والتأكيد برز أيضًا من خلال الطباق : رغبًا ≠ رهبًا. أيضًا تكرّرفي البيت الثاني من خلال حروف النفي : لم، ولا التي كُرّرت مرتين، ومع حرف العطف ( الواو )، من خلال الصورة الشموليّة، فكلمة الأنعام فصّلت؛ فكان منها الطيور، والأفراخ التي وصفت بأنها غير مكسّوة بالريش بعد.
 
     ونحن نجد أن الشعريّة الحديثة التي اهتمت بموضوع العدالة تشكّل مجموعة جغرافيّات شعرية، تتآخى في فضاء التعبير، وسواء كانت عاميّة، أو فصيحة، فهي خاضعة لهذا القانون في التقاطع؛  لذا من هذا المنطلق يتعذّر الدفاع عن مزعم أصالة الثقافات لديها، كما هو لدى الجواهري، الواضح في أصالة لغته العربية.
     "كلّ هذه الاعتبارات والميزات تبيّن دور الشعر في أنسنة الاختلاف، وبالتالي تحرير الاختلاف الثقافي بين الأمم من سياسات الاستقطاب، وما يترتّب عنها من إلغاء للآخر، وتهميش الثقافة، وتشويه لصوره، ألم يترك هيدغر الفلسفة، ويتّجه إلى مصاحبة الشعراء، لأنّ ما يدوم بتعبيره يؤسّسة الشعراء( ).
    لقد تطرّق الشعراء المعاصرون على اختلاف أجناسهم وأديانهم، وانتماءاتهم الحزبيّة، والثقافيّة، ومدارسهم الشعريّة لموضوع العدالة، ولكن بنسب متفاوته، والتطرّق إلى هذا الموضوع يمنح الشاعر صفة الخلود، سواء كان مرائيًا، أو صادقًا، لكننا في ترصد هذا الموضوع لدى الجواهري، نجد أنّه أصيل في صوره، التي تكشف حدّة وجدانه في خوض هذا الموضوع.
 
ب-اللغة، المجاز والجديد في شعر العدالةلدى محمد مهدي الجواهري:
  ممّا ورد نستنتج أن الشاعرمحمد الجواهري الذي طرح موضوع العدالة انتمى إلى المدرسة الفنيّة الكلاسيّة، فكانت لغته تابعة لمدرسته، فاتّسمت بصفاتها، ، ولغتها، ومن ميّزاته، نعدّ:
 1: إمارة الكلام، ولغة  الحياة اليوميّة.
فسّر الناقد عدنان العوادي(إمارة الكلام هذه التي خصّ بها الشّعراء، لأنّهم يستعملون اللغة استعمالاً إبداعيًا...أما حين يقف وراء ركوب الضرورة ضعف الموهبة الشعريّة لدى الشاعر،... فلا تعود ضرورة  تشويه اللغة، وبهذا التّفسير تتجلّى (إمارة الكلام)( ) ...لذا يتعيّن على الشاعر أن يبدع في أسلوبه الخاص، فيكون لديه (معجم شعريّ)؛ ومن الشعراء الذين اعتنوا بالمفردة الشاعر محمد مهدي الجواهري الكلاسيكي، الذي برع في صياغة الكلمة، واستعمالها، ومنحها الشرعية اللغوية، وإدارتها بمهارة الحاذق الفنان "فما دامت مفرداته تتداخل مع أفكاره، بحيث يتعذر عزل إحداهما عن الآخر، لأنها وسيلة من وسائل التأثر في المتحدث إليه، بما يعنيه الجانب الاجتماعي للّغة( )، وبما يحيي أصالة اللغة الفصحى، وتعابير لها أصبحت في طي النسيان.
" يقول الجواهري في قصيدته (الراعي)4/189 :
 
   أبدًا يقاسمها نصير          يا من شظيف العيش عدلا
 وقال في قصيدته (ساله مملحة) 5/372
 
السمحةُ المعطاء حُمِّلت      الخصاصة والشظافا
وقد جاء في كتاب العين: باب الشين والظاء والفاء 6/:248 الشَظَفُ يُبس العيش، قال:
"
 راجٍ لينَ تغلبَ عن شِظاف    
                                 كمتدنِ الضنا كيما يلينا
     والشظيف من الشجر ما لم يجد ريّهُ"
     وجاء في القاموس المحيط : باب الفاء فصل الشين: 3/214:
 الشظف محركة وكسحاب: الضيق والشدة، ويبس العيش وشدته، ج: شِظاف ...، وكأمير، من الشجر: ما لم يجد ريّه فصلُب وفيه نداوته...شظافه فهو شظيف.
     واستعمال الجواهري لهاتين المفردتين (شظيف، وشظاف) صحيح، فصيح( )، معبّر عن معاناة شظف العيش، وانخساف العدالة.
""وقال في قصيدته (عيد العمال) 5/22:
"
وسوف يجيء زمانٌ به تلطم للمصعرين خدودا
 جاء في كتاب العين: باب العين والصاد والراء معهما ، 1/298 
الصعر: ميل في العنق ...والتصعير: إمالة عن النظر إلى الناس تهاونا من كبر، وعظمة، كأنه معرض".
 فصاغ الجواهري من (أصعر) اسم فاعل، واستعمله بمعناه"( ) علىصيغة أفعل التفضيل.
ف"المعنى الذي يتّصف بالشرف والصحة عياره العقل الصحيح، والفهم الثاقب، وإصابة الوصف عيارها الذكاء، وحسن التمييز، واللفظ عياره الطبع والرواية والاستعمال...إلخ. وغير ذلك مما يفرض على الشاعر لكي يتحقق له الفضل في الاقتراب من معاني الوحي، والسعي لإخراج مضمونها الأخلاقي( )".
وإذا كانت اللغة تجسيدًا للوحي؛ فهي المعبّر عن الوجدان، والذات، والمعاناة اليوميّة للفرد، ومجتمعه، هي لسان التظلّم، وألم الشارع، دون الدخول في متاهات الإعلام، ولهجته الاستهلاكيّة، وأساليبه الإبلاغيّة- التواصليّة.
  إن الشاعر الموهوب، يخرج المعنى مكشوفا، بصورة منمّقة، مع حسن التأليف، و براعة  في الألفاظ.
فالبطولة، الشرف، الشجاعة، الكرم، الوفاء، الثأر، الحب، العلم، الفصاحة والعدالة...هذه المعاني العارية ليست سوى عناوين لتجزئة المضمون الأخلاقي  للمجتمع الذي يجد تنظيمًا له في الوحي( ).
فنحن نحسّ احساسًا كاملاً بدلالة الكلمات، كنّا نشده أوّلا لهذه الجسارة اللغويّة، وأدركنا أخيرا أنّ الشعرلدى الجواهري الكلاسي، في طرحه لموضوع العدالة، تخطى في دلالاته الشعر الحديث الذي نقول أن" لا قاموس له، ...ففي العالم كلّه قد تجاوز منطق القاموس الشعري منذ أمد ليس بقريب( )، وذلك بعد أن نضحت فكرة الحداثة عنده، ونضحت تجربته وتأثره بإليوت في فكره وشعره.
فلنأخذ من مثل  مقطعا من قصيدة للشاعر صلاح عبد الصبور الذي لم يتأثر فقط بجسارة إليوت اللّغوية، بل تعدّى ذلك إلى الإعجاب بثقافته الواسعة، واطّلاعه العميق على التّراث الإنساني.
    يقول صلاح عبد الصبور:
 
 "ورجعت بعد الظهر في جيبي قروش
     فشربت شايا في الطريق
     ورتقت نعلي
     ولعبت بالنرد الموزّع بين كفي والصّديق".
 
  ويذكر الشاعر ردود الفعل، فقد تهكّم بعض الأصدقاء، والنّقاد بعد نشر القصيدة ما شاءوا بالشّاي والنّعل المرتوق. هذه السّمة في استعمال الألفاظ الجديدة، وطريقة الحديث اليوُميّ، تأصّلت أكثر فأكثر في أشعاره اللاحقة. فقد وعى، إذ تأثر بإليوت، أنّ للألفاظ رموزا ومعاني، ووظيفة الشاعر تكمن في معرفة استخدام تلك الرموز والمعاني ليعيد تكوين اللغة، ويخلق لها ذاكرة جديدة، حدسيّة، تتمكّن من تفجير أعماقها وتصفيتها – اللّغة التي صارت رمزًا بعد أن تخطّت نفسها"( ).
     ولو تتبعنا المفردات التي استخدمها عبد الصبور، لوجدناها مفردات يومية تعوّد الإنسان المصري على استخدامها في حياته: "الرّزق – القرش – رتقت نعلي – لعبت بالنرد – إلخ..." ( ).
     ولذلك فإن هذه القصيدة بمفرداتها البسيطة قدّمت لنا "صورة لحياة مفرغة من المعنى؛ يسود فيها الحزن، المشهد بوصفه حقيقة المدينة التي قهر قلاعها حكام طغاة في الماضي وفي حاضرها، وهذا ما امتازت به المدرسة الواقعية
.
لقد هبّت رياح التغيير الأسلوبيّة على الشعراء جميعًا، سواء كان شعرهم فصيحًا، أو عاميًا، وكان لا بدّ من الإفصاح في النصوص عن مشاعر التّظلم، ووصف حالة البؤس التي يمرّ بها المجتمع في ظل السياسة الفاسدة، وإذا ألقينا الضوء على التعابير، والمفردات التي تفضح صور انخساف العدالة في الأرض، وأثرها؛ فقد نجد أوجه تشابه بين أسلوب الشعراء: روّاد المدرسة الواقعية باللغة الفصحى، وبين أسلوب روّاد الشعر العامي؛ لأن الأخير معظمه ارتجالي، وأصحابه يعتمدون الفطرة في إلقائهم، ولا يفتّشون في بطون الكتب عن فلسفة الشعر، وجديد روّاده، ولكننا إذا قرأنا قصائد اجتماعية للجواهري، فنجد أنّه كان صرحا مؤسسا لهذه المدرسة.
"فبعد تفاقم الخلاف مع  الرئيس عبد الكريم قاسم، ، واحترازا من تشنجات وتداعيات وتهديدات، بل وبعد ممهدات وتجاوزات لكل هذا وذلك، اضطر الجواهري الكبير عام 1961 لطلب اللجوء السياسي في براغ، 
وعشية ذلك الوقت، وخلاله، وبعده، كتب الجواهري في براغ العديد من القصائد التي يمكن للمرء، ومن خلال قراءة مطالعها وعناوينها، وحسب، أن يتلمس هضيمة الشاعر الخالد ومعاناته، وهي كلٌ  متشابك مع هموم بلاده، وامته.. ومن بين تلكم القصائد: "يا غريب الدار" عام : 1962:
من لِهَمٍّ لا يُجارى ولآهاتٍ حَيارى
ولمطويٍّ على الجمرِ سِراراً وجِهارا
طالباً ثأراً لدى الدهرِ الذي يطلُبُ ثارا
مَنْ لناءٍ عاف أهلاً وصِحاباً ، وديارا 
تَخِذَ الغربة دارا إذ رأى الذلَّ إسارا
إذ رأى العيشَ مداراةَ زنيمٍ لا يُدارى
 
 وكذلك في قصيدته " سهرت طال شوقي للعراقِ" عام: 1967 ومن أبياتها: 
أبثكم شكاة اتقيها، فتصرعني وتمسك من خناقي
أغمزاً في قناتي من عُداة ٍ، تناهشني، وصمتاً من رفاقي...
و"منغول ٍ من التاتار" وغْـدٍ، تراضع والوغادةُ من فواقِ
إلى "يمن" إلى "حلب" تسمى، إلى "مصر" إلى درب الزقاق ِ
وكل ضاق بالملصوق ذرعاً، وأيٌ فيه مدعاة التصاق ؟
أوجه القرد، أم خلق البغايا، أم النعرات، أم نذر ِ الشقاق؟
أم النسب المؤثل بالمخازي، أم الحسب المسلسل في رباق ِ..
ولما حمت الأقدار ألقت، به جيف البطون إلى العراقِ...
ليجمع حوله سفلاً تلاقى، كما التقت الخفاف على الطراق ِ...
"زنامى" يعطفون على زنيم، كما عطف الجناس على الطباق...
وما برح العراق محك صبر ٍ، يطاق بأرضه، غير المطاق
كأن غرائب الدنيا تنادت، على وعد لديه بالتلاقي"( )
إن الوحدات اللغوية في هذه القصيدة لا تقل وقاحة ، ولا فظاظة أو سوقية عن وحدات قصيدة صلاح عبد الصبور، من مثل: التاتار، وغد، الوغادة، القرد، البغايا، النسب المؤثل،  المخازي، جيف، الخفاف، زنامى، زنيم، غيرالمطاق، وهي تسعى لتصوير الحدّ الأقصى من فظاظة الحكّام، وانخساف العدالة في العراق الذي برز في البيتن الأخيرين. 
     ويلاحظ بأن الصيغة الأسلوبيّة التعبيريّة، والوظيفيّة مثلا في الأدب الاجتماعي، وفي الكتابة الإعلاميّة (الجانب الوظيفي) تملك في الوقت نفسه ألوانا خطابيّة – شعريّة، بلاغيّة- بيانيّة، أو عكس ذلك، ساخرة هابطة ( )، كما في الشعر العامي، وقد يختلف النقاد والعلماء في تحديد ما في وحدة لغويّة من عنصر أسلوبي تعبيريّ، أو حياديّ؛ فلو أخذنا استعمال كلمة جهاد في الفترة الاسلاميّة، وما تلاها، فلا يختلف استعمالها عن فترة ما قبل الإسلام، وقد تحمل اليوم لونا آخر قد يغدو عند بعضهم مرادفا للنضال، وعند آخرين مرادفا للإرهاب؛ إذن لا بد من رؤية الكلمة في أكثر من سياق تاريخي. إن الكاتب المسرحي يتوقّف مليا عند كل كلمة، يضمنها تاثيرا تعبيريّا، ويغدو الأسلوب عنده أداة لتحميل الفكرة شحنة أسلوبيّة، تسهّل عملية التواصل( )والشحنة التعبيرية لمفردات اللغة في شعر العدالة عنيفة، والشاعر محد الجواهري وعى هذه المهمة التعبيرية، وصانها ضمن قالب كلاسي موزون ومقفى، فأحيا اللغة العربية بفصاحتها، ودلالاتها الدقيقة، من مثل ، المؤثل، سفلا، زنيم...
     وإنسانية الإنسان أصبحت في الشعر الواقعي جلّ همّ الشاعر، وعيشه بكرامة كان هدفه؛ ولعل ارتباط الشعر بالثورة هو الذي أفقد الشاعر الحديث قسطًا كبيرًا من قدرته على السخرية، لأنّ الغاضب المحنق لا يستطيع أن يسخر، مع أن السخرية أداة فاعلة في التشكيك بالمسلمات، وفي إثارة قدرة الإنسان على الحوار من خلال قدرته الطبيعية على الضحك والابتسام"( )، وما نجده  في الشعر الحديث، مثل هذا الاتجاه، اتّقنه الجواهري في بعض قصائده.
2: بعض المظاهر الأسلوبية في شعر محمد مهدي الجواهري:
حاول الجواهري ترسيخ قيمه، ومبادئه، في المجتمع، وأهمها إحلال العدالة، "من خلال استثمار الواقع،  وتناقضاته لتقديم أفكاره، وإغناء تجربته الشعرية، واختبار قدرته على تصوير حياة المجتمع العراقي بروح متقدة" ( )فتوخى وسائل تعبيرية للوصول إلى هدفه، أهمها: تحول شعره من الطابع الغنائي إلى الطابع الدرامي من خلال رسم الشخصيات، وإضفاء طابع الدراميّة عليها، وتعيين الأمكنة، وتختصر قضية العدالة التي أججت وجدان الشاعر الجواهري في هذا البيت، إذ يقول:
في الكوخ طفل غرير حوله بقر                              وفي المقاصر طفل حوله سرر( )
من خلال  وصف المكانين، ورسم الشخصيتين، وازن الشاعر بشكل رائع ومبدع بين شطري البيت مستعملا نوعين من حروف الجر مع مجرورهما( في الكوخ، وفي المقاصر)  وفي (حوله بقر، وحوله سرر) وفي هذه الموازنة إبراز لانعدام العدالة من خلال أبسط صورتين للمعيشة اليومية لطفلين، واحد منهما فقير، والآخر غني، وظاهرة الموازنة بيّنة في قصائد كثيرة للشاعر.
-الإيقاع في شعر العدالة للجواهري:
 تتميز قصائد الجواهري بالتزام عمود الشعر التقليدي، الذي أبرز قوّة الثورة النفسية في داخله تجاه انخساف ميزان العدل في بلاده، مع روعة الديباجة، وحكم  نسيج العبارة، ، وحركة الإيقاع الثورية، التي تشبه حركة الدم. فهو يقول:
                              فقل للمقيم على ذلّة                  هجينا يسخّر أو يلجم ( )
  نلحظ هنا العنف في حركة الإيقاع، وشدّة النبر، الذي يذكّرنا بنبرة الحكّام الذين يذلّون الناس، فالشاعر هنا ينصح أحدا بلهجة الأمر، بأن يقول لمن يصمت على المذلّة بطرق مختلفة، منها تسخيره للخدمات المجّانية، أو قمعه، بالانتفاضة.
  ونستطيع القول بأن الجواهري، دخل الخلود من خلال توخيه تقنيات تعبيرية جديدة، ولم يأل جهدا من استثمار كل ما يخدم أسلوبه من الأنساق الفنية والتقنيات الخلاقة في الفنون الأخرى مثل: المسرح والقصة والرواية والسينما والفن التشكيلي، وعلن النفسوغيرها، وحتما، فإن اعتماد (التجاوز) قاعدة للتخلص من المألوف ومجاوزة الأنماط السائدة في التعبير؛ يقوم على رؤية إبداعية في التفكير بكل جديد، وهو ما يشف عن رؤية مجنحة بثلاثة أبعاد منها يعبر عن قيمة معينة"( )، وهي:
بعد تكويني، صادر عن ذاته المتمردة على الظلم، والفساد، والمطالبة بالعدالة الاجتماعيّة، بعد واقعي، صادر عن موضوع القصيدة التي يتناولها، وبعد فنيّ صادر عنة التجربة الإبداعية التي يخوضها، مع هندسة المقاطع الصوتيّة، والتوازن الموسيقي في الجمل، وبناء الإيقاع المتناغم مع المشاعر المحتدمة.  
ونستطيع القول في النهاية أن نبل نفسيته، دفعته لطرح مواضيع خالدة في شعره، ومنها أتى خلوده.
 
د. رفيف علي عاصي هي مرجع المقابلة مع أ. رواء المجاصي مدير دار بابيلون ومركز الجواهي في براغ. ابن أخت الشاعر الجواهري.