عربيات ودوليات >اخبار عربية
هل يقف العالم العربي على حافة أزمة غذاء طاحنة؟!
هل يقف العالم العربي على حافة أزمة غذاء طاحنة؟! ‎الثلاثاء 14 09 2021 21:24
هل يقف العالم العربي على حافة أزمة غذاء طاحنة؟!


لو كان لنا أن نمر في جولة تفقدية على مئات البيوت المصرية في أثناء تحضير وجبة الغداء، فالاحتمال الأكبر أننا سنجد البندروة مكونا أساسيا في أي وصفة مصرية، فمنذ وصول البندورة إلى أفريقيا في بداية القرن التاسع عشر عن طريق موانئ سوريا، تمكنت هذه الفاكهة الحمراء الغنية من أن تحتل مكانة عالية في وصفات المطبخ العربي، ناهيك بكونها من المكونات الأساسية الهامة جدا في العديد من مطابخ العالم كإيطاليا والصين. ولكن منذ بداية شهر آب الماضي والبندورة ليست على ما يرام، وعلى الرغم من الارتفاع المفاجئ في أسعارها، فإن جودتها في تدهور مستمر.

ينطبق هذا على معظم أنواع الخضروات والفاكهة المتوفرة في الأسواق حاليا، ولا يبدو أن الأمر يتعلق بانتهاء موسم زراعتها قدر ما يتعلق بأسباب أكثر عمومية وشمولا، فالموجات الحارة التي ضربت العالم كله في شهر آب ربما تكون قد تسببت في ضرر أكبر من الإجهاد الحراري للبشر، فبينما يمكننا مواجهة الحرارة الزائدة بأجهزة التبريد وحمامات الماء البارد، إلا أن غذاءنا لا يمكن تعويضه أو استبداله بهذه البساطة. قد يعتبر البعض أن الخضروات والفواكه من الرفاهيات، أو على الأقل يمكن العيش بدونها، إلا أن الخطر يتجاوزها ويمتد إلى أحد أعمدة الأمن الغذائي في العالم كله.

تعرف الأغذية الرئيسية (Staple Foods) على أنها أنواع الطعام الذي يشكل الجزء المهيمن من النظام الغذائي لسكان منطقة ما، ويتم تناولها بانتظام، ربما يوميا، وتوفر نسبة كبيرة من احتياجات الغذاء والطاقة للفرد. يمثل القمح والخبز المصنوع منه أحد أهم الأغذية الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (Middle East and North Africa – MENA Region)، بالإضافة للأرز والبطاطس والذرة، وكلها -كما تلاحظ- أغذية عالية في الكربوهيدرات والسعرات الحرارية، كي توفر الطاقة التي يحتاجها الجسم للعمل بكفاءة.

بينما يحتوي عالمنا على 50 ألف نوع من النباتات الصالحة للأكل، إلا أن القمح بالإضافة إلى الأرز والذرة يوفران ما مجموعه 60% من مدخول الطاقة الغذائية في العالم . تم تدجين القمح لأول مرة في الشرق الأوسط في بلاد ما بين النهرين، حيث نشأت أولى الحضارات الإنسانية المعروفة عام 3000 ق.م. وتطورت الزراعة بالأساس بفضل محصول القمح، لأنه منتج متعدد الاستخدام ويمكن الاعتماد عليه، فهو ينمو جيدا في المناخات المعتدلة، ويُصنع من دقيقه أنواع مختلفة من الخبز والمعكرونة والفطائر والمخبوزات.

تختلف المحاصيل في درجة مقاومتها للتغيرات البيئية المحيطة، كتغير درجات الحرارة ونسبة ثاني أكسيد الكربون وتوفر المياه والجفاف، وكلها نتائج مباشرة لظاهرة التغير المناخي، ولكن يصبح الأمر خطيرا حقا إذا ما طال هذا التأثير أحد الأغذية الرئيسية. في الدراسة المنشورة في دورية إنفيرونمينتال ريسيرش ليترز (Environmental Research Letter) عام 2012، قام الباحثون بتحليل التأثير المتوقع للتغير المناخي على المحاصيل الثمانية الكبيرة في منطقتي أفريقيا وشرق آسيا، واللتين تعانيان بالفعل من تذبذب الأمن الغذائي، وذلك عبر التحليل التلوي والمراجعة المنهجية (Meta-analysis & systematic review) للبيانات من 52 دراسة أصلية منشورة.

تتوقع الدراسة أنه بحلول عام 2050 سيقل إثمار المحاصيل في المنطقتين بنسبة 8%، ولكن في أفريقيا وحدها من المتوقع أن يقل إثمار المحاصيل بنسبة تصل إلى 40% لكل المحاصيل، وعلى وجه الخصوص، سيفقد محصول القمح ما مقداره 17% من إنتاجيته، ما يعني أن رغيف الخبز الذي يطعم ملايين العائلات في القارة السمراء مهدد بالاختفاء. وعلى الرغم من وجود بعض الإشارات إلى أن التأثير السلبي للتغير المناخي على إنتاجية المحاصيل بسبب نقص المياه وارتفاع درجة الحرارة سيعادله من الجهة الأخرى زيادة في إثمار المحاصيل نتيجة زيادة تركيز ثاني أكسيد الكربون، لتكون النتيجة في النهاية أن لا تغيير سيحدث حقا، إلا أنها توقعات قديمة نسبيا ولا ندري مدى إمكانية الاعتماد عليها في الوقت الراهن.

في ورقتها البحثية المنشورة في دورية ريجونال إنفيرونمنتال تشينج (Regional Environmental Change) التابعة لمؤسسة سبرينجر، تعرض كاثارينا واها Katharina) Waha)، كبيرة علماء الأبحاث في مجموعة الأمن الغذائي العالمي في منظمة الكومنولث للبحوث العلمية والصناعية بأستراليا (CSIRO)، التوقعات الخاصة بتأثير التغير المناخي على محصول القمح في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحديدا، حيث من المحتمل أن يؤدي تناقص هطول الأمطار على المنطقة مع ارتفاع درجات الحرارة إلى تقصير فترات زراعة القمح بأسبوعين كاملين بحلول منتصف القرن الحالي، ومن ثم تناقص إنتاجيته، نظرا لأن المياه المختزنة في التربة ستتبخر بمعدل أسرع من أي وقت مضى.

تعتمد دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشدة على الزراعة بوصفها مصدرا للدخل والغذاء، حتى في منطقتي حوض البحر الأبيض المتوسط ونهر النيل، حيث تمثل الصحاري جزءا شاسعا من الأراضي. تعتمد 70% من الأراضي الزراعية على مياه الأمطار من أجل الري، والحد الأدنى لكمية الأمطار اللازمة لزراعة مثل هذه الأراضي يساوي 200-300 ملم سنويا، لذا فإن هذه المنطقة معرضة للخطر بشدة، حيث تحصل على ما يقل عن 300 ملم من مياه الأمطار سنويا، وهو بالكاد يكفى لتغطية الأراضي الزراعية، بما يعني أن أي تغير في المناخ أو درجات الحرارة وكميات الأمطار سيكون له تأثير سلبي لا يستهان به على المحاصيل الرئيسية في المنطقة.

لا يتوقف الأمر هنا، فالأراضي الزراعية في المنطقة تقع في منطقة المناخ شبه الجاف، أي أنها تتلقى نسبة أمطار أقل من معدل تبخر المياه المحتمل من التربة، لذا فمن المتوقع أن ينخفض إنتاج المحاصيل بنسبة 30% مع ارتفاع درجة الحرارة العالمية بمعدل 1.5-2 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، وبنسبة 60% مع ارتفاعها بمعدل 3-4 درجات، دون الوضع في الاعتبار أي إجراءات احترازية لمواجهة الأمر.

يمكننا أن نلاحظ عن كثب أهمية توفر كمية المياه المناسبة للزراعة في الدراسة المنشورة في مجلة ويذر أند كلايمت أكستريمز (Weather and climate extremes) التابعة لمؤسسة إلسفير (Elsevier) الرائدة في نشر الأبحاث العلمية والتقنية، حيث أُجري اختبار على إحدى فصائل الذرة في المختبر الوطني للزراعة والبيئة بولاية أيوا الأميركية، جُهِّز المختبر بغرف تسمح بالتحكم في قوة الإضاءة وطول النهار ودرجة حرارة الهواء والتروية من خلال نظام حاسوبي مُبرمج.

زُرعت بذور الذرة تحت ظروف مختلفة في كل غرفة لمقارنة نموها وإنتاجها، وجاءت نتائج التجربة مثيرة للاهتمام، ففي وجود كمية مناسبة من المياه، زاد إنتاج البذور والكتلة الحيوية لعينات التجربة، سواء كانت درجة الحرارة معتدلة أو مرتفعة، على عكس عينات التجربة التي عانت من نقص أو فرط تروية التربة، فعلى الرغم من وجودها في الحالتين في درجة حرارة معتدلة، فإن الكتلة الحيوية وإنتاج البذور تأثر بالسلب، خاصة في حالة فرط تروية التربة، حيث انخفضت الكتلة الحيوية وإنتاج البذور بنسبة الثلثين تقريبا.

إن لم يكن نقص المياه مشكلة كافية، فماذا عن الهجرة الجماعية للمحاصيل؟ من المتوقع أن يؤدي الاحترار العالمي إلى زيادة الضغط على مصادر المياه والزراعة، حيث سيؤدي المناخ الأكثر حرارة وجفافا إلى الدفع بالغطاء النباتي والمناطق الزراعية إلى الشمال الأكثر برودة، بمقدار 75 كم بين عامي 2090 و2099 في حال وصلت درجة الحرارة العالمية إلى 4 درجات مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، ربما لا تعيش لتشهد هذا التغيير الكبير في شكل المنطقة، لكن حتما لن يسلم أولادك وأحفادك من مواجهة هذا الأمر إذا استمر الاحترار العالمي بالمعدلات الحالية نفسها.

بحسب التقرير الأخير الصادر عن "الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتغير المناخي (The Intergovernmental Panel on Climate Change- IPCC)"، فالأمن الغذائي يعني أن يتمتع جميع الأشخاص في كل الأوقات بإمكانية الوصول إلى ما يكفي من الطعام المغذي بأمان، لتلبية احتياجاتهم وتفضيلاتهم الغذائية، من أجل ممارسة حياة نشطة وصحية(9). هنا يمكننا أن نرصد عدة مشكلات تحول دون تحقيق الأمن الغذائي في منطقة الوطن العربي. بالإضافة إلى المشكلات المتعلقة بالمياه والاحترار بالمنطقة التي ستؤثر على مستقبل الزراعة، فإن الاعتماد بشكل كبير على استيراد الأغذية الرئيسية، يجعل المنطقة معرضة -بشكل غير مباشر-  لخطر التغير المناخي الذي يؤثر على الدول المصدرة أيضا.

نذكر مثلا واقعة انخفاض محصول القمح بسبب الجفاف الذي ضرب الصين وروسيا والأمطار الشديدة التي ألمت بكندا بين عامي 2010 و2011، وهي من أكبر الدول المصدرة للقمح إلى منطقتنا. أدى هذا الانخفاض المفاجئ في إنتاج المحصول إلى عجز في صادرات البلاد من المحصول الحيوي خلال تلك الفترة، ولكن لا يبدو واضحا إن كان السبب حقا نتيجة التغير المناخي في المنطقة أم أنه حادثة تغير مؤقت في نمط الطقس، ولكن هذا لا يجعل الأمر أقل خطورة.

تمتد خطورة الأمر إلى ما هو أكبر من ذلك، فلا يتوقف الأمر على انخفاض واردات الأغذية الرئيسية، بل وارتفاع أسعارها أيضا، فعندما منعت روسيا تصدير القمح في 2010 بعد الموجات الحارة التي ضربت البلاد، زادت أسعار القمح للضعف في العالم كله بنهاية العام. ولا يمكن الاستهانة بتأثير التغير المناخي على ارتفاع أسعار الغذاء، فهذا لا يؤدي فقط لنقص التغذية في الطبقات والدول الأقل حظا، وإنما يتسبب فعليا في زيادة أعداد المواطنين تحت خط الفقر المدقع، كما حدث عام 2010 حينما أدى ارتفاع أسعار الغذاء إلى إنزلاق 44 مليون إنسان إلى طبقة الفقر المدقع في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط، وفقا لدراسة أجراها البنك الدولي في 2011.

لم تهتم الدراسات كثيرا بالمحاصيل غير الرئيسية ولكنها مهمة من حيث القيمة الغذائية، مثل الخضروات والبقول، والتي تمتلك حساسية عالية تجاه التغيرات البيئية. على سبيل المثال، الطماطم والفول ضعيفان في مواجهة الإجهاد الحراري، حيث يمتلكان نقطة فشل في النمو (وهي الحرارة التى يتوقف عندها النبات عن النمو) أقل بكثير من المحاصيل الرئيسية. علاوة على ذلك، فإن العديد من المحاصيل معرضة للتلف الظاهري، بشكل خاص ظهور بقع بيضاء نتيجة التعرض لنسب عالية من غاز الأوزون، ما يجعل شكلها غير مشجع على الشراء ويضعف جودتها في السوق، وتعد الخضروات الورقية والطماطم من أكثر المحاصيل الحساسة لهذه الآثار.(12)

تأتي زيادة غاز الأوزون في التروبوسفير (أولى طبقات الغلاف الجوي، والتي تمتد من سطح الأرض وحتى 15 كيلومترا لأعلى) مصاحبة لانبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، الأمر الذي يؤثر على جودة إثمار المحاصيل ومعدلاته. لا يكتفي غاز الأوزون بالتأثير سلبا على جودة الخضروات والبقول، بل إن ارتفاع نسبة غاز الأوزون منذ بداية عصر الصناعة أدى إلى كبح الإنتاج العالمي للمحاصيل الرئيسية مقارنة بما كانت ستصل إليه في غياب غاز الأوزون، ويقدر هذا الفقد بحوالي 10% لمحاصيل القمح، و3-5% لمحاصيل الأرز والذرة.(13)

في عالم تغزوه السمنة وأمراض القلب، أصبح اتباع نظام غذائي صحي وأكثر استدامة ضروريا، ولكن أكثر صعوبة، في وجود الخضروات والبقول بوصفهما مكونات أساسية لمثل هذه الأنظمة الغذائية، فإن قطاعا كبيرا من الأفراد في المناطق الريفية والفقيرة سيعانون في حالة انخفاض إنتاج الخضروات أو فسادها أو ارتفاع أسعارها. يهدد هذا شريحة عريضة من المستهلكين بالإصابة بنقص الفيتامينات والمعادن المهمة والوقوع في شراك سوء التغذية في النهاية، فعلى الرغم من عدم اعتبار الخضروات والبقول من ضمن الأغذية الرئيسية، فإنها لا تزال جزءا حيويا من أي نظام غذائي سليم.

لا يبدو المستقبل واعدا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فكأنما اتحدت كل العوامل البيئية والاقتصادية ضد الموارد الغذائية لهذه المنطقة، ما يجعل أمنها الغذائي تحت التهديد المستمر، ليس فقط بفعل تأثيرات التغير المناخي، ولكن أيضا بسبب الحروب وعدم الاستقرار اللذين ضربا العديد من دول المنطقة عبر السنين. وفيما يبدو، ما لم يتم اتخاذ خطوات جادة على مستوى العالم للحد من التغير المناخي والتحكم في الاحترار العالمي قبل أن يصل لنقطة اللاعودة، فإن العالم كله سيكون مهددا بالمجاعات ونقص الغذاء. الخبر الأسوأ أن المأساة ربما تبدأ من هنا، ما لم تكن قد بدأت بالفعل.
 

المصدر : جنوبيات