ثقافة وفن ومنوعات >ثقافة وفن ومنوعات
حياة من صميم الموت!
حياة من صميم الموت! ‎الجمعة 10 12 2021 18:15 تالا دحابرة
حياة من صميم الموت!

جنوبيات

ايقَظني صوت فيروز "لأجلك يا مدينة الصلاة اصلي، لاجلك يا بهية المساكن يا زهرة المدائن" فجارنا لم يتوقف عن تشغيل اغانيها منذ ان توفت زوجته منذ سبع سنوات أذكر مرة عندما سألته عن السبب اخبرني ان الحجة "ام جمال" كانت تدندن له اغاني فيروز كل صباح وان هذه من احدى الطرق التي يصبّر بها نفسه على الوحدة بعد اعتقال نجله جمال وفراقه لابنته في الغربة.

نهضت من سريري واستوقفتني رائحة الاسى اليوم في حيّنا التي كانت اقوى من العادة، لا بأس فالحياة في هذا البلد اشبه بمهمة انتحارية تعودنا. ذهبت لنبتة الصبّار الصامدة على زاوية نافذتي صبّحتُ عليها وقدمت لها بعض الماء فهي من اصدقائي القلة الباقون، صبّارتي بالنسبة لي كفيروز للعم "ابو جمال". 

خرجت من المنزل لارى وجه القرد او "يعكوف" المستوطن الذي يسكن ويدنس نصف بيتي الاخر يلتقط فيديو لشباب الحي المتجمعين حول حائط الجداريات الذي عملنا عليه مطولًا ليلة امس، هرعت الى الحائط لاجده ملطخًا بنجوم دايفد اليهودية وتراهات اخرى وبالاضافة تهديدات القتل المعتادة، هذه الفرصة الممتازة اخرجت هاتفي وفتحت تطبيق "انستغرام" وباشرت بالتسجيل "مرحبًا اصدقائي، معكم محمد الكرد مباشرةً من حي الشيخ جرّاح الصامد، انظروا الى افعال من يتدعون الرُقي والتدين، الجداريات التي رسمناها البارحة من خريطة فلسطين والاجنحة وغيرها كلها ذهبت مع الريح، لكن لا بأس ان هدمّوا مئة مرة، عمّرنا الف" عندما انتهيت من تحميل الفيديو حماسي وعزمي الذي اظهره دائمًا تَبخر فعلى عكس ما نظهره فنحنُ متعبون جدًا انا، اختي منى، اهلُ الحي. نمضي اغلب اوقاتنا نُطارَد من فوبيا الفقدان. فقدان المنزل، الاحبة، الاصدقاء، فقدان تلك الثورة المنتفضة في قلوبنا تجاه الوطن.

فلسطين ليست فقط قضية بل وجهة ثابتة طريقٌ محفور تسلكه الاجيال منذ 1948 حتى اليوم لكن الطريق هذا نهايته مجهولة ونحن نحمل الكثير من الامتعة المُثقلة من تطبيع وخيانات من اغتيالات واعتقالات. 

الان عرفت رائحة الاسى ليست من حينا بل من قلبي انّه يغلي المًا على نفسي، وطني، كل شيئ. نظرت الى أبي يقف بعيدًا عيناه تفيضان بالوهن، عندها حقً شعرت بالعجز وبأن يداي مكبلتان فأنا في صغري وعدته انّي انا ورفاقي سنستعيد حي الشيخ جرّاح وسنتخلص من وباء الاحتلال، اخشى ان اموت قبل ان افي بوعدي لأبي. اعادني صوت اختي منى من شرودي "يلا شباب معلش منرسم مية زيها جيبو الالوان والفراشي" سأظل اقف فخرًا واعتزازًا بهذه الامرأة الخارقة التي انجبتها امي، مصدر قوتي والشخص الذي يتفهم تفكيري وقلقي الزائد تجاه كل شيئ ومن يدفعني الى الافضل دائمًا. 

نظرت اليّ منى واتت لتضمني " تخفش خيّا مش حنتزحزح من هان" كلمات بسيطة لكنها كفيلة بطمئنة العجلة التي لا تتوقف عن الدوران في رأسي. انتهينا من الرسم فتحت هاتفي مجددًا والتقطت سلفي لي ولأهل الحي مع الحائط الجديد وكتبت اجمل ما غنت جوليا بطرس "ما ركعنا للمذلة لم نساوم، وانتصرنا رغم العدوان المهاجم، فليرى الاحرار يا كل العواصم، كيف يغدو المجد في الاوطان دائم" وشاركتها على صفحتي وكالعادة انهالت الردود بالدعوات والدعم الذي يغمرني بالرغبة في اكمال هذه المهمة وبالتأكيد رسائل الأفاعي والخونة والتهديدات التي لا تتوقف. الثورة الالكترونية التي بدأتها اختي منى ضد قرارت الاحتلال الجائرة كشرارة رُميت في فتيل ونحن على يقين ان هذه الثورة قد زلزت كيان العدو وزادت على ذلّه ذلًا.

 لكن مع هذه الانتصارات المشرفة  يأتي خطر الاعتقال الذي يتربص لنا دائمًا ولا اهاب الاعتقال نفسي بلّ اهابُ ان يطال اختي وامي ا، حتى أبي وان يدنس ما بقي من امانٍ وحب في عائلتنا الصغيرة. عدت الى المنزل فجرًا فنحن نتناوب على اعتاب الحي خوفًا من اي هجومٍ مفاجئ لنستنجد بسلاحنا الوحيد الان، مواقع التواصل الاجتماعي. وانا في طريقي لبيتنا رأيتُ منى " رايحة افتح بث روح ارتاح انت" فكرت لدقيقة "لا تروحيش لحالك بلكي صار اشي" اوقفتني بيدها وتابعت " بصرش اشي هيو بابا جاي معي" خضعت لطلبها وخضعت لطلب عضلات جسدي الوهنة ووصلت اخيرًا لسريري وغفوت سرعان ما لامس خدي الوسادة لكن لم يطل نومي فايقظتني صرخاتٌ من الخارج و ولولة امي "نزّل ايدك عنها الله يكسر ايديك" ركضت حافي القدمين الى الخارج واصتدمت بصديقي فؤاد وهو يصرخ "اعتقلوا منى يا محمد اركض اعتقلوها الانجاس" خانتني قدماي وشعرت بوخز ابرٍ في قدمي كزجاج ونظرت الى قدمي يغطيها القرمزي لكنّي واصلت الركض وكادت حرقة رئتي تحرمني النفس رحت ابحث عن غطاء رأسها الاسود واصرخ "ابعدوا عنهااا" وانقضضت على الجندي الذي يكبل يدي منى لكني مجدي الصغير هذا لم يدم طويلًا فأحد الجنود شدني الى الوراء ورماني ارضًا شعرت بالاسفلت يقبل وجنتي وبدعسة حذاء على وجهي كل شيئ حدث بسرعة الاصفاد على يدي دموع امي وصرخاتها "محمد! منى! الله معاكو يمّا تحكوش اشي ضلكو ساكتين".

القاعدة رقم واحد التزم الصمت في كل الحالات نظرت الى الارض ولمحت عكاز أبي، ما الذي يحصل؟ وجدته عيناي طريح الارض "يابا! قوم يابا من شان الله" كنت احاول ان اتسلل من كلب الصيد الذي يقيدني انا ادفع للامام وهو يدفع للوراء. التفت الى اليمين ورأت منى للمرة الثانية في حياتها تبكي، منى الصلبة التي بكت مرة واحدة فقط عندما ماتت سمكة الزينة الخاصة بها. تمنيت في هذه الدقيقة ان اتبخر او ان اصبح رمادًا فانا على الحالتين احترق. ربما نجسد المشاهد القاسية هذه للجميع دائمًا لكن لن يكون بامكاني ابدًا ان اجسد شطرًا صغيرًا من الالم والمعاناة. اُخذنا الى المخفر والى غرفة التحقيق ساعة اثنتان ثلاث بلا جدوى سٌلبنا من هواتفنا كنا فاقدين للتواصل مع العالم الخارجي، أأبي بخير؟ اين أمي؟ ماذا عن ابو جمال؟ هل هاجموا البيوت؟ الافكار تكاد تقتلني. منى في الغرفة الجاورة "مش خايف عليكي يا حبيبتي جدعة وقد حالك" كنت اقنع نفسي اكثر من ان اخبرها.

 لا اعلم كم مرّ من الوقت قبل ان اتى احد كلاب الحراسة اقصد الجنود اطلق سراحي انا ومنى، كان كلانا مستغربٌ جدًا اطلقوا سراحنا بسرعةٍ مثيرةٍ للشَك حضنت اختي "قربوا عليكي شي خيتا؟" سألت " لا بس قلبي مش مطمني طلعونا بهل السرعة". عدنا الى الشيخ جراح وليتنا لم نعد، حطام الحجارة في كل مكان ورائحة الهزيمة تختلط مع عبق الغبار حي الشيخ جرّاح الصامد سقط واخذ قلبي معه في مكان ما بين الركام وللمرة الثانية اليوم رأيت منى تبكي عندها شعرت ان الراية البيضاء رفعت، هدموا الحي يا الهي، اذ بأبي يربت على كتفينا من الوراء "يابا شو مالك يابا شة صار" نظر الى اليّ بوجهه المجعّد "النا الله يابا، النا الله" مسكت هاتفي وباشرت ببث المشهد "مساء الهزيمة، لن اعلق سأدع المشهد يتكلم" مشيت في بقايا الحي اصور ووجدت صبّارتي اربًا مسكتها وسمعت دندنة العم ابو جمال "انا بتنفس حرية ما تقطع عني الهوا" واكمل بأعلى ما امكنه صوته الجشن العجوز "طول عمرهن يقتلوا فينا طول عمرهن يحطوا البندقية بين عيونا ومنخفش! جايين هلا تستسلموا؟" بندقية... تذكرت دكتورة اللغة العربية في الجامعة كانت دائمًا تنعتني بكاتب البندقية. صعدت منى الى احد الحيطان المهدمة وفتحت بثًا " مساء الاصرار والعزيمة اسفة خيّا بس فش عنا هزيمة بقاموسنا" عادت منى التي اعرفها ولاول مرة منذ ايام ابتسمت "حننظف الحي لو حجرة حجرة بايدينا، ولو بدنا نشيل الغبرة برموشنا" وفجأة دبت الحياة بالحجارة وبقلوب اهل الحي ونظرت خلفي الكثير من الوجوه الغربية "منى ايش في؟" ابتسمت اختي الحديدية " هول جايين من كل فلسطين يساعدونا وفي بعد عالطريق من اول ما عرفوا اجو ركض" نظرت حولي وفي هذه اللحظة تأكدت ان الشعب الفلسطيني ينظر الى الموت بعينيه ويقول "بخفش" ايرعبهُ احتلال؟

الاهداء: الى عمّي الشهيد جمال دحابرة الذي ارتقى بسبب قصف العدوان الاسرائيلي، والى جدي "ابو جمال" الذي هُجرّ من حطين في فلسطين في ريعان شبابه وتوفيّ وهو يحلُمُ بالعودة واخيرًا الى جدي "ابو العبد" الفدائي الذي طُرد من فلسطين وامضى حياتهُ في الشتات لوحده. لارواحكُم، عن القضية لاخر نفسٍ سأظل اكتب. 

المصدر : جنوبيات