فلسطينيات >الفلسطينيون في لبنان
سعدو ذيب رباح لاجئ ثمانيني في "عين الحلوة": "قبلتُ تراب فلسطين ثلاث مرات"
سعدو ذيب رباح لاجئ ثمانيني في "عين الحلوة": "قبلتُ تراب فلسطين ثلاث مرات" ‎الاثنين 4 04 2022 09:00
سعدو ذيب رباح لاجئ ثمانيني في "عين الحلوة": "قبلتُ تراب فلسطين ثلاث مرات"

جنوبيات

في أحد أزقة حيّ حطين في داخل مخيم عين الحلوة المتاخم لمدينة صيدا (المخيم أكبر التجمعات الفلسطينية في لبنان) يُقيم الفلسطيني سعدو ذيب رباح بعد أن هُجّر قسراً مع عائلته من قرية "حطين" (قضاء طبريا) في الجليل، في العام 1948، أثناء ما عُرف بـ"نكبة فلسطين". كان عمره ستّ سنوات عندما وجد نفسه قابعاً في صندوق شاحنة لنقل مواسم الزّرع، قادها جدّه والد والدته من قريتهم حطين، ومعه ابنته وولدها سعدو وثلاث شقيقات له، فيما بقي والد سعدو في  داخل القرية لحماية بيته ورزقه مع مجموعة من المقاتلين.
 
أمّا وجهة الشاحنة والكثير من مثيلاتها فكانت الأراضي اللبنانية عبر معبر الناقورة، ومنه إلى بنت جبيل، قبل أن يحطّ الرحال بهم، بعد مكوثهم في بنت جبيل نحو خمسة أسابيع، في مخيم عين الحلوة في صيدا. هناك، يمضي رباح ( أبو ماجد) ما تبقّى من حياته، بعد أن ناهز الثمانين عاماً بعيداً عن بيته، الذي ولد فيه، وعن أرض آبائه وأجداده في قرية حطين داخل الأراضي الفلسطينية، التي احتلّتها ولا تزال إسرائيل، وشيّدت عليها بعد تدمير البيوت وجرف الأراضي ما يُعرف بالمستوطنات والمستعمرات الإسرائيلية واليهودية.
 
أكثر من عمليّة جراحيّة خضع لها سعدو رباح في السنوات والأيام الأخيرة حتى أصبح جسده نحيلاً، وصوته خافتاً، من دون أن تتأثّر ذاكرته المليئة بالأحداث المؤلمة والقاسية التي عاشها من قرب، بدءاً من طريق الجلجلة، التي سار عليها مع أهله وأبناء قريته حطين في فلسطين إلى حي حطين في عين الحلوة، مروراً بسلسلة الاعتداءات والغارات الجوية الإسرائيلية على مخيم عين الحلوة وباقي المخيمات الفلسطينية في لبنان، فضلاً عن الصراعات الداخلية والاقتتال الفلسطينيّ والتصفيات الداخلية، التي ذاق مرارتها من قرب، وأحزنته كثيراً إلى حدّ جعلته "يكفر" بالثورة الفلسطينية.
 
 ويتذكّر رباح من الأحداث المؤلمة اقتحام عناصر فلسطينية منزل رئيس التنظيم الشعبي الناصري معروف سعد واقتياده إلى مقرّ الصاعقة في مخيم عين الحلوة كردّ فعل على موافقة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر على مبادرة وزير الخارجية الأميركيّ وليام روجرز، في عهد الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، والمتعلّقة بفكّ الاشتباك بين القوات المصرية والقوات الإسرائيلية، والتي رفضتها منظمة التحرير الفلسطينية؛ ومعلوم أن معروف سعد كان من أبرز المؤيّدين والداعمين لسياسة عبد الناصر، وكان سعدو رباح كما قال يعتبر معروف سعد يمثل الضمير الحيّ للشعب الفلسطيني والعربي.
 
وأما الحادثة الثانية التي آلمت رباح فتمثلت باغتيال ابن عمّه فالح رباح الأحبّ إلى قلبه، وهو أحد كوادر جيش التحرير الفلسطيني برصاص فلسطيني، نتيجة صراعات داخليّة وإقليميّة؛ هاتان الحادثتان أجبرتا رباح مع عائلته على الهجرة والنزوح خلال فترات متفاوتة من المخيم؛ المرة الأولى باتجاه إسبانيا، والثانية إلى ليبيا، والأخيرة إلى الإمارات العربية المتحدة، حيث أمضى 11 عاماً، عمل خلالها في وظائف حكوميّة، وشاءت الصدف أن يفقد فلذة كبده البكر ماجد في حادث سير مروّع. وبعد ذلك غادر الإمارات مطلع التسعينيّات ليستقرّ في منزله في حي حطين، حيث تفرّغ لممارسة نشاطه السياسي والتنظيمي في حركة فتح، وتركّز عمله كما عرف عنه على حلّ ومعالجة الخلافات والإشكالات في داخل المخيم ومحيطه، وتوطيد العلاقة بين سكّان المخيم وممثلي الفصائل الفلسطينية من جهة، وبين أبناء صيدا والجوار وفاعليات المنطقة من جهة ثانية.
 
في بداية سرده لقصّة نزوحه وبعضاً من حياته قال سعدو رباح "أنا من مواليد العام 1942 من قرية حطين – قضاء طبريا في الجليل، والدي كان يعمل في الزراعة ويعتبر من الملّاكين. دخلت مدرسة البلدة في العام 1947. وبعد سنة، وقعت النكبة في العام 1948، واضطررنا إلى النزوح وترك بيوتنا وأرزاقنا كما سائر أبناء شعبنا، نتيجة المجازر الوحشية التي ارتكبتها عصابات الهاغاناه والأرغون. في بداية الأمر، حطّ بنا الرحال في مدينة بنت جبيل. وبعد مكوثنا مدّة شهر وأكثر، كنّا فيها ضيوفاً مكرمين لدى أبناء المدينة، انتقلنا إلى مدينة صيدا، وجرى تجميعنا عند الطرف الجنوبيّ للمدينة في ما يعرف اليوم بـ"حي الطوارئ".
 
وكان يهتمّ بنا مجلس الكنائس العالمي، الذي أحضر لنا الخيم وموادّ غذائيّة. وبعد إنشاء "وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" (أنروا) في العام 1951 بدأت الوكالة على الفور برعايتنا، وكان عددنا يقدّر بنحو ثمانية آلاف لاجئ. بنت الوكالة بدايةً بيوتاً من الزنكو والطين، وفتحت بعض المطاعم والمدارس على أرض استأجرتها من أصحابها، وتباعاً تمدّدت رقعة انتشارنا بما يُعرف بمخيم عين الحلوة، الذي يُقيم فيه اليوم أكثر من ستين ألف لاجئ، ويُعتبر من أكبر التجمّعات الفلسطينيّة في لبنان. والدي وجد له عملاً في الزراعة، ووصية جدّي لعائلتي كانت قبل وفاته في العام 1958، بعد أن شعر بالذلّ وصعوبة الحياة، وفقد الأمل بالعودة، كانت "شدّوا الأحزمة وعلّموا أولادكم". وعلى هذا الأساس، أدخلني والدي المدرسة باكراً، ولم أخرج منها إلا بعد حصولي على شهادة البكالوريا في العام 1964. ومع تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية أواسط الستينيات، وبداية صعود النضال الفلسطيني، انضممت إلى الثورة، وأقسمت اليمين على ولائي للثورة. ومن دون أدنى شكّ، ساهمت كغيري من الشباب في العمل الفدائيّ وفي التدريب والتثقيف والقيام بعمليات استطلاع على الحدود اللبنانية مع فلسطين".

ذكريات مؤلمة وحزينة وأخرى مفرحة 
تتّسع ذاكرة سعدو رباح للكثير الكثير من الأحداث والذكريات التي أحزنته، وأوجعت ولا تزال قلبه، الذي أخضعه لعمليات قلب مفتوح. يتذكّر من الأحداث بداية تهجير عائلته من قرية حطين، وأحداث خطف المرحوم معروف سعد، واغتيال ابن عمه فالح، ووفاة ابنه ماجد في حادث سير، إضافة إلى وفاة الرئيس ياسر عرفات، رمز الثورة والشعب الفلسطيني كما يصفه، ووفاة الرئيس جمال عبد الناصر، وصولاً إلى الصراعات والانقسامات الفلسطينية - الفلسطينية  والاقتتال الداخليّ ومسلسل الاغتيالات، الذي دمّر بيوت أهلة وأودى بحياة المئات من شعبه. وأمّا الأحداث التي أسعدت قلبه، فكانت أكبر فرحة لديه عندما ذهب مع وفد حركة فتح للمشاركة في مؤتمر "رام الله" في العام 2008 (عند وصولنا إلى معبر أريحا نزلت من السيّارة، وقبّلت الأرض ثلاث مرات، وأنا أتنشّق رائحة بلدي، وأرضي). ويقول: "في رام الله، تمكّنت من لقاء بعض الأقارب في الداخل".

وصيّة رباح
رسالة سعدو رباح ووصيته أن يبقى قرار حقّ عودة اللاجئين حيّاً في نفوس الأجيال الصاعدة، وأن يُدفن جثمانه في قريته، ويقول: "ربي لا تمتني إلا على أرض فلسطين بعد أن تتحرّر من الاحتلال الإسرائيلي".
 
  أطلق اللاجئون الفلسطينيون على الأحياء السكنية التي أقاموا داخلها في مخيم عين الحلوة نفس أسماء القرى والبلدات التي نزحوا منها من فلسطين، مثل أحياء "حطين" و"اللوبيا" و"الطيري" و"الصفّوري" و"المنشية" و"عكربة" و"الذيب"؛ وذلك بهدف أن تبقى أسماء قراهم الأصليّة محفورة في أذهانهم وأذهان الأجيال الصاعدة وكيلا ينسوا.

المصدر : النهار- أحمد منتش