لبنانيات >أخبار لبنانية
لبنان: إنماء متوازن، أم تدمير ممنهج!!!
لبنان: إنماء متوازن، أم تدمير ممنهج!!! ‎الثلاثاء 5 07 2022 10:21
لبنان: إنماء متوازن، أم تدمير ممنهج!!!

جنوبيات

مع تطور مفهوم التنمية وتجاوزه المنحى الاقتصادي ليشمل الـموارد البشرية والتنمية الـمستدامة لـهذه الـموارد، والقطاعات المختلفة من اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة وتربويّة، فتعددت أبعادها، أمّا الإنماء المتوازن، فقد تختلف النسب في بعض المجالات لكن في الخطوط العريضة يجب أن تكون الخدمات وفرص العمل والبنى التحيتة ومقومات العيش متساوية بين مختلف المناطق. ما يرتب على ذلك لتحقيق التنمية...

أمّا في بلدنا العزيز لبنان، وعلى قاب قوسين أو أدنى، من الارتطام العظيم الذي يحوط بلدنا، ومنذ عقود خلت، ربّما كانت عبارة "الإنماء المتوازن"، من العبارات الأكثر تداولًا في قواميس السياسة اللبنانيّة، ومفادها، بطريقة أو بأخرى عملية الإنماء للمناطق الطرفيّة، أو المهمشة، في كل لبنان، في الجنوب والبقاع والشمال، لتصبح كما قريناتها من المناطق الأخرى من النواحي الإنمائية، وحيث كان للجنوب خصوصيته، لا سيما في مواجهة الاعتداءات المتكررة من قبل العدو الصهيوني الغاصب، وما رافق ذلك من ممارسات إجرامية ووحشية بحق بنيه، ما دفع بالعديد منهم للهجرة، أو النزوح في الداخل، لا سيما باتجه العاصمة بيروت، في حين كانت المناطق البقاعيّة لا سيما بعلبك - الهرمل تنحو باتجاه بيروت، ما جعلها مع الجنوبيين، في الغالب، يشكلون ما يعرف بالضواحي، (أحزمة البؤس)، أمّا عكار ومناطق الضنية والمنية، فكان معظم أهاليها ينزحون إلى طرابلس، ليشكلوا في الغالب أحزمة بؤس في ضواحي المدينة، وهكذا بدت المنطقة الواحدة منشطرة بين أحياء بؤس وأحياء الطبقة المخملية، وجاءت الحرب الأهلية لتخلط الأوراق من جديد، ساهمت في تهجير قسري لمناطق ذات صيغة طائفية محددة، كما في تهجير المسيحيين من مناطق الجبل، ليستقر المطاف بجماعة كبيرة منهم في منطقة كسروان والمناطق المحيطة بها، وتهجير الشيعة إلى الضاحية وبيروت، وعليه، أضحى هناك اختلال في الموقع ذاته، يستبطن في داخله نزعة عنصريّة متعالية، مترافق مع تغيرات كبيرة في المشهد الديموغرافي، كما في المشهد الاقتصادي - الاجتماعي، وما يتبع ذلك من تأمين للخدمات ومقومات الحياة العصريّة، في عالم أشبه بمنزل كوني.

في الوقت الذي كانت فيه الاختلالات واضحة في عمليات الإنماء، حيث استحوذت المركزيّة القطبية بين بيروت ومناطق الجبل، التي شكّلت عقدة التفوق فيها على أقرانها من المناطق، فتركزت فيها الخدمات، بكل أشكالها وأنواعها، من اقتصاديّة أو اجتماعية أو تربوية أو ثقافية أو رياضية، وما إلى ذلك، وأفرزت بالتالي نوعًا من الأفكار حيث شهدت المناطق الفقيرة ومعها أحزمة الفقر والبؤس نحو اليسار بمختلف مشاربه ومدارسه، لتشهد المناطق المقابلة نزعة نحو اليمين المتطرف، مع ما للتوجه الثقافي والفكري من اعتناق لهذه المبادئ أو تلك... وربّما اختلطت الأمور أكثر، لنجد تشعبات فكرية وعقدية، تراوحت ما بين الديني والقومي والعلماني، وغيرها مع تقريغ هائل لعدد من الجمعيّات والمنظمات...كل هذا كان يحصل، في زمن مليء بشعارات الإنماء المتوازن، كان الانسحاق يجري على قدم وساق، جعلت المواطن، وتحديدًا في المناطق المهمشة يعيش الغربة عن الوطن، في الوطن، أمّا بعد، وقد انكسر كل شيء، وبات الوطن من أقصاه إلى أقصاه دون إنماء، بل دون الحد الأدنى من مقومات العيش الكريم.

هذا البلد الذي كان في ذروة مناداته بالإنماء المتوازن، كان يعيش في حال من انعدام الوزن، أو اللّاتوازن، وهو ما جعل كل ما كُتب، وشُّرع، وتقونن، من كل هذه الأمور مجرد حبر على ورق.

وعليه إذا ما لأردنا أن نبني بلدًا متوازنًا، ومتزنًا، فإن من المستحيل، ديمومته، إن لم نبن قيمنا على أصر المحبة والتواصل البنّاء، ولتحقيق ذلك ينبغي القيام بخطوات أساسية، من أبرزها: 

-  توافر الانتظام العام، مع توفر الإرادة السياسيّة، والتكامل في أدوار المؤسسات الرسمية الإدارية والتشريعية والتنفيذية في ما بينها، وبينها وبين القطاعات المنتجة الأخرى.... وفق مخطط مرسوم ومحكم وبعيدًا عن المحاصصات والمحسوبيات، مرتكزٍا على مبدا العدالة في العمل...
- الإنماء في التربيّة، وذلك من خلال تحسين نوعية التعليم والتربية، وجعلها المرتكز الأساس في بناء الشخصية، وتفعيل الحوكمة، مقرونًا بتنمية المهارات والإمكانات والقدرات، وقبل كل شيء تهيئة الاستعدادات.

- الارتكاز على ثقافة متجانسة وواعية، قائمة على ثقافة المشاركة والتعاون، وتأمين الأرضية الصالحة لبناء النسيج الاجتماعي المتماسك توصلًا إلى إنتاج المجتمع القيادي، الذي يعمل تحت راية قيادة عليا... وذلك عبر إنشاء مؤسسات تعمل على تحقيق هذا الهدف.
ويرتكز نجاح ما تقدم، بالعمل على نقاط، من أهمها:
- بناء المجتمع على مبدأ التوازن، وفاقًا لقواعد واضحة وصريحة وشفافة.
-  إنتاج مواطن صادق محب لوطنه وحاضر للدفاع عنه والتضحية في سبيله.
-  نزع كل أنواع التعصب والعنصريّة، واسنئصال النزعة الاستعلائية من النفوس.
- لإنماء المتوازن الفكري والنفسي، وإعادة ترميم النظرة إلى الكيان اللبناني، قبل الشروع ببناء الحجر، سواء بالأبنية أو الطرقات أو الجسور، أو السدود، بالرغم من كل أهميتها.
فهل تتوفر هذه المرتكزات في لبنان؟ أم أنّنا نفتقر لكل ذلك على مستوى الدولة والسلطات الحاكمة فيها، وكما الشرائح الاجتماعية والتيارات السياسية والفكرية والحزبية التي تدّعي محاربتها وصراعاتها، لننتقل من صراع التنمية المفضي حتمًا إلى الخراب والدمار. 
هل نحن قادرون إلى إعادة نبض الحياة إلى مجتمعنا؟ وكيف؟

(باحث في القضايا الفكريّة والتربويّة والتاريخيّة)

المصدر : د. حسين عبيد