بأقلامهم >بأقلامهم
بالنظام - اتجاه التاريخ
بالنظام - اتجاه التاريخ ‎الجمعة 26 08 2022 10:20 زياد شبيب
بالنظام - اتجاه التاريخ

جنوبيات

مجرى التاريخ أو اتجاهه بحسب "هيغل" أنّ الكون يتحرّك في اتجاه معيّن، وهو الاتجاه الصحيح أو المرتجى، وفي الوقت عينه هو اتجاه حتميّ. مرتجى، لأنه يؤدّي بالبشر إلى الأفضل وإلى التطوّر. وحتميّ، لأنه يفرض نفسه على البشر دون أن تكون لهم القدرة على اعتراض مساره.

 
المصير الطبيعي للبشرية يتبع منطق التاريخ أو مساره الحتمي. ومسار التطوّر التاريخي ينبغي أن تُحترم مراحله كما هي الحال في حياة البشر أنفسهم. إن كان مصير الإنسان منذ ولادته أن يصبح راشداً وفاعلاً ومنتجاً فهو ليبلغ هذه الحالة عليه أن يمرّ بالطفولة والمراهقة وإن لم يعش كل إنسان هذه المراحل بعمقها يصل إلى الرشد وفي نفسه نواقص كبيرة واضطرابات.

في فرنسا استمرّت الثورة مئة عام ولم تبلغ دولة الانتداب على #لبنان رشدها الحضاري والسياسي إلّا بعد مخاض استمرّ من ثورة عام 1789 حتى بداية الجمهورية الثالثة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ومرّت بتقلبات وثورات، وثورات مضادة، وديكتاتورية وحروب أوروبية طاحنة وعودة للملكية، قبل أن تستقر على النظام الجمهوري في عام 1875، المستمر إلى اليوم بنسخته الخامسة الصادرة سنة 1958. تقول ذلك أستاذة التاريخ ليليان زيدان دون خوف على مستقبل لبنان، معتبرةً أنه يسير في مساره التاريخي الحتمي نحو الأفضل.
 
حكاية لبنان في المئة عام ونيّف المنصرمة من عمره الحديث، لم تبدأ بـ"ثورة" كما في فرنسا، بل انتهت إلى ثورة مفقودة (بنظر كثيرين). هذا إذا سلمنا بأن ما حصل بدءاً من خريف عام 2019 يستجمع صفات الثورة. والثورة قد لا تكون مفقودة بل مرتجاة أو مأمولة، واكتمال صفاتها رهنٌ بما هو آتٍ وبما سيسجّله التاريخ في مسيره "الحتمي" نحو الأفضل بحسب هيغل.

الثورة في فرنسا كانت ابنة النهضة التي سبقتها، ولم تكن لولاها. وأهم أحداث عام 1789 هناك كان "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" الذي تضمّن خلاصة الفكر النهضوي الذي ما يزال أساس الجمهورية الفرنسية ودساتيرها. وعندنا لن تكون ثورة من دون نهضة. ولن تكون بالانتفاض على الواقع أو بكسر حواجز الخوف وحسب، لأن السرّ في اكتمالها يكمن في الفكر الذي تحمله. أمّا ما حصل عندنا فلم يحمل فكراً جديداً، وجلّ ما قيل وكُتب في تلك الفترة وإلى الآن اقتصر على استعادة أدبيات سياسية واقتصادية بعضها مستورد وبعضها الآخر مستهلك وإن جاء عرضه الأخير في حُلَلٍ جديدة وعلى ألسنة ووجوه جديدة.

لا خوف من الهجرة المتعاظمة تحت ضغوط الحياة شبه المستحيلة معيشياً، لأنها يمكن أن تتحوّل هجرة معاكسة عند ظهور بوادر الأمل. ومعظم الذين يغادرون للعمل في الخارج وبحثاً عن فرص أفضل يسألون أولاً عمّا إن كان هنالك أمل بفرج قريب لأنهم في هذه الحال يبقون ويصبرون، كما يؤكّد أرباب عملهم. فاللبناني لا يخاف دخول النفق إذا رأى الضوء في نهايته. وهذا بذاته باعث على الأمل برغم الخسارة الكبيرة.

الصبر عندنا أصبح مرّاً، و العبارة أستعيرها من عنوان كتاب الصديق جواد الأسدي "الصبر المرّ" الذي صدر حديثاً عن دار النهار بحلتها الجديدة. صحيح أنه مرّ ولكنه يبقى مفتاح الفرج.

الفكر الجديد الذي يشكل النهضة المرجوة لا بد له أن يبدأ بالظهور والاكتمال. وأساسه الحقيقي وسبب الأمل في بزوغه هو الوعي السياسي الذي أصاب جيلاً جديداً بأكمله في لبنان في خريف عام 2019. هذا الجيل الذي انتكس بعضه وهاجر، وبعضه انحرف مرحلياً إلى المنظومات الحزبية الطائفية في الانتخابات الأخيرة، سوف يكون الأرض الخصبة الجاهزة لاحتضان بذور النهضة إذا ما أحسن الزارعون اختيار البذار. هذا هو اتجاه التاريخ.

المصدر : جنوبيات