لبنانيات >أخبار لبنانية
شيخ العقل في ذكرى الشيخ ولي الدين: رجل الأمانة والقائد اليعسوب
شيخ العقل في ذكرى الشيخ ولي الدين: رجل الأمانة والقائد اليعسوب ‎الجمعة 28 04 2023 23:01
شيخ العقل في ذكرى الشيخ ولي الدين: رجل الأمانة والقائد اليعسوب

جنوبيات

ذكر شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز الشيخ الدكتور سامي ابي المنى بمواقف الشيخ الجليل الراحل أبي محمد جواد ولي الدين، وتشديده على "وحدة الصف وجمع الشمل والعيش المشترك في الجبل ووصولا إلى الأوطان والناس جميعا"، مجددا "الاستمرار على نهجه وحمل رسالته، والمحافظة على الثوابت التوحيدية والمعروفية والوطنية والإنسانية، وحسن التعامل مع المتغيرات".
فقد استضافت مؤسسة "العرفان" التوحيدية في السمقانية الشوف شيخ العقل لمناسبة الذكرى الحادية عشرة لوفاة المرحوم الشيخ ولي الدين، في لقاء توحيدي ثقافي، بمشاركة عدد كبير من الفاعليات الروحية والتربوية والثقافية والاجتماعية وأسرة المؤسسة من مختلف الفروع، وذلك في قاعتها العامة في مبنى ثانوية العرفان.


رافع
استهل اللقاء بكلمة لمسؤول العلاقات العامة في المؤسسة رامي بو عز الدين، تلاه رئيس المؤسسة الشيخ نزيه رافع، قائلا: "نلتقي واياكم اليوم في هذه المناسبة المباركة، في ذكرى الورع والطهارة، ذكرى من كان للخير والحق منارة، ذكرى اليوم الذي انطفأ فيه السراج في خلوة رأس الذيب فشع نور شيخنا الجليل أبو محمد جواد ولي الدين بدرا للتقى والإيمان والدين".
اضاف: "نلتقي في رحاب المؤسسة التي بدأت مع شيخنا الجليل فكرة نيرة ومبادرة خيرة، ورغم ضعف الإمكانات يوم ذاك استطاع بإرادته الصلبة ونواياه الطاهرة أن ينطلق في تنفيذ وتجسيد فكرته ورؤيته، بمشاركة المشايخ الأفاضل ودعم القائد الشهيد كمال جنبلاط، وكنا خلفه ومعه نمضي ببركته ودعائه إلى أن أصبحت المؤسسة اليوم صرحا نفخر به ويعتز به كل موحد شريف".
وتابع: "هذا الصرح الذي حضن أبناء الطائفة من الجبل إلى البقاع فالجنوب، فاحتضنه مجتمع الموحدين بكثير من الحب والإخلاص والوفاء،

الصرح الذي شكل غرسة طيبة في هذه الأرض الأبية، ينشر مبادىء الدين والأخلاق والقيم في نفوس أبناء مجتمعنا التوحيدي، ويزرع في نفوس الأجيال بذور الحقيقة والعرفان لتزهر خيرا ومحبة وعبقا من الإيمان.
الصرح الذي بدأ مدرسة بمئتي تلميذ وتحول اليوم إلى سلسلة مدارس تضم في رحابها حوالي 5000 طالب وطالبة، ومئات الموظفين الذين يشكلون عائلة واحدة تعمل باخلاص وتفان".

وقال: "هنا لا بد من توجيه الشكر والتقدير لأفراد الهيئات العامة والإدارية والوظيفية الذين جسدوا أسمى معاني الوحدة والتعاون والألفة والمحبة، فكانوا أجسادا متفرقة في روح واحدة، يعملون بوفاء لتحقيق أهداف العرفان السامية في نهجهم وعملهم اليومي، ولن ننسى هنا ما قام به المرحوم الشيخ علي زين الدين في رئاسة المؤسسة على مدى عقود باخلاص وتفان خدمة للمجتمع التوحيدي كله، حتى وصلت العرفان إلى هذه المرحلة المشرفة. ولن ننسى أيضا جمعية أصدقاء العرفان التي يرأسها الأستاذ وليد بك جنبلاط والتي واكبت وتواكب المؤسسة في كل المراحل وتقدم الدعم اللازم بهدف الاستمرار والتطور".
أضاف: "في هذه المسيرة الممتدة لأكثر من خمسين عاما، كنا نستذكر شيخنا الجليل في كل لحظة وكل مناسبة طيبة، عرفانا وامتنانا منا ومن كل شريف بما قام به وقدمه، بتواضعه وطهره ومحبته وتقواه في سبيل هذه الطائفة. ونحمد الله دوما أننا تسلمنا هذه الأمانة المثقلة بالصعوبات وحملنا لواءها في كل الظروف والمواجهات، فحافظنا عليها، بعونه تعالى ودعاء ورضا المشايخ الأعيان والسر الكامن في التوحيد والعرفان".

وتابع: "لا بد من الإشارة إلى أن العرفان أحيت سابقا في هذه السنة بالذات الذكرى التاسعة عشرة لوفاة المرحوم سيدنا الشيخ ابو حسن عارف حلاوي، ونحن نستذكر دوما شيخنا الشيخ أبو محمد صالح العنداري وشيخنا الشيخ أبو ريدان يوسف شهيب، هؤلاء المشايخ الأجلاء الذين جسدوا خلال مسيرتهم الطاهرة النموذج الديني الحقيقي في وحدة الصف والتكاتف وجمع الأفرقاء على الخير والمحبة بسر التوحيد وقوة الإيمان، تحقيقا لعهد ولي الزمان في حفظ الإخوان ونبذ التفرقة والهجران".
وقال: "ختاما، نسأله تعالى في ذكرى شيخنا الجليل أبو محمد جواد ولي الدين، أن يوفقنا واياكم في كل ما فيه خير إخواننا وطائفتنا، وأن يقينا الشرور ببركة مشايخنا الأبرار ويقدرنا على عمل الخير والإستمرار".
اضاف: "سماحة الشيخ الدكتور سامي ابي المنى عرفناك وعرفتك العرفان منذ العام 1976 شابا واعدا سالكا سبيل الدين والعلم، عرفناك يوم قصدنا منزل المرحوم والدك الشيخ أبو كمال نايف فوجدنا الروحانية والمحبة واستأنسنا بجو الإلفة والاندفاع لديك ولمسنا روح العرفان في العائلة".

وتابع: "خمس واربعون سنة من التعاون والعمل والبناء، كان لكل مدماك فيه يد طيبة للشيخ سامي معلما ومديرا وأمينا عاما، بصدقه وتضحيته وحدسه ومحبته، بسعة فكره وطيب معدنه وقربه من الجميع، بشعره وكلمته المعبرة، بثقة مشايخنا الأجلاء به وبنظرة شيخنا الجليل الثاقبة وارتياحه له، بعلمه وانفتاحه وبقدرته على التمثيل الراقي للمؤسسة في المحافل التربوية والثقافية والاجتماعية والحوارية، بكل ذلك استطاع الشيخ سامي أن يرتقي مع ارتقاء العرفان، واستطاعت العرفان أن ترتقي بارتقائه، وها هي اليوم بفضل أمثاله من المخلصين تصل إلى ما وصلت إليه من تقدم واتساع، وها هو اليوم بما زرع من ثقة وبما أعطى وضحى يصل إلى أعلى المقامات في الطائفة والوطن، مقام مشيخة العقل، مستحقا ويستحقه المقام وتستحقه الطائفة والبلاد".

شيخ العقل
بدوره، قال ابي المنى: "اسمحوا لي أن أبدأ، وكما بدأت متأثرا في بعقلين في يوم الوداع الحزين في مثل هذا اليوم بالذات، مستذكرا شيخي الجواد، مسلما عليه بلهفة، ذاكرا محطات وعبرا معبرة من سيرته العطرة الطاهرة، قائلا:
شيخي السـلام عليك يا شيخ التقى يا من بك القلب الرقيـق تعلقـا
منذ الشباب لمعت صوتا هادرا ومع المشيـب بك الرجاء تحققا
من نور خلوتك البسيطــة يرتجى نور الخلاص ويستطـاب الملتقى
من سحر لفظك والمواعظ يجتنى طيـب الإنـابة، من عيونك ينتقى
ومن المواقف في الصعاب إرادة منك استمدت، فاستحالت فيلقــا".
اضاف: "إخواني الكرام في العرفان، من موقعي في مشيخة العقل أحييكم، رئيسا ومدراء ومعلمين وإداريين وعاملين، وأنا واحد منكم، نحيي معا في قلوبنا ذكرى سيدنا وشيخنا القدوة. أحييكم، وأنتم ترسمون إرثه الغني في نفوس أبنائكم الطلاب وإخوانكم في مدارس العرفان: عفة وتقوى، وجرأة وشجاعة، ومهابة وعزة".

وتابع: "أحييكم، ونحن نستذكر شيخنا الطاهر الجليل، فتطالعنا صورة ذلك الأسد الهمام، ناهضا بالدين، حاملا لواء العزة والكرامة، صارخا بوجه المعتدين على أرض الجبل وتاريخه، صرخة اهتزت لها البلاد ودونت في ذاكرة المجد وصفحات الرجولة، يوم وقف ذلك الشيخ المعمم بصفاء التوحيد وتراث الأجداد وحكمة الشيوخ الثقات مشددا عزائم الموحدين كي لا يخافوا إلا الله، ملتزما بالفرض، متمسكا بالأرض، مدافعا عن العرض، قائلا لمن حاول الاستهانة بالجبل: إننا قوم نتربى في خلواتنا المتواضعة على الطاعة والتقوى وعدم الذل إلا لله تعالى، ونربي أبناءنا على العزة والرجولة، ليكونوا أباة أحرارا، أحباء في ما بينهم، أشداء على المعتدين، ومتحديا ذلك الضابط الإسرائيلي المتعجرف، آنذاك، والمطالب بتسليم سلاح الموحدين الدروز، قائلا له: إننا لن نسلم سلاحنا ولا نسأل عن بيوتنا، بل نسأل عن كرامتنا، ثيابنا نرضى أن تكون مرقعة، أما كرامتنا فلا، فاهدموا البيوت إن استطعتم، ولن تستطيعوا، ولنا في الله كافل ومعين".

"إنه الشيخ اليعسوب، العطوف الرؤوف الذي ما تأخر عن نصرة محتاج أو إسداء رأي صواب أو اتخاذ موقف جريء يحفظ عزة الجبل وكرامة أبنائه ووحدتهم، حين كانت الطائفة تحتاج إلى المواقف في أيام الصعاب. فسار الجبل وسار الموحدون على وقع إرادته الخيرة وثقته الراسخة بالله وجرأته وإيمانه، وهو من كان العضد الأقوى للقيادة المسؤولة والمرجع الأول لإخوانه في مسلك التوحيد، والملاذ الآمن في النائبات، وصوت الحق المدوي عند كل مفترق ومحطة.
تعامل مع النحل فجنى العسل وأخذ العبرة، أحب تلك الجماعة المنتجة فسمى الموحدين الدروز باسمها وشبههم بها، وإلى مثل مجتمعها دعاهم ليكونوا، مسالمين، منتجين، مجاهدين، حريصين على الكرامة والسلامة، رافضين الظلم والعدوان، متطلعين إلى الغاية، غير غارقين في النظر إلى ورود الطريق وأشواكها، بل تواقين ليقطفوا شهد التوحيد ويتذوقوا حلاوة الطاعة، حياتهم كحياة تلك الجماعة، عملا دؤوبا وتعاونا ونظاما وجنى، جماعة تعمل بسلام وهدوء ومثابرة، لا تتعدى على أحد، ولكنها تأبى الاعتداء عليها، ولو كلفها ذلك الموت والشهادة".

اضاف: "ألم نقل يوما في هذا المعنى، وعلى منبر العرفان: "كأمة النحل هم، والزهر مطلبهم ما أضمروا الشر يوما لا ولا كادوا يستلهمون الصفا، لكن إذا ظلموا، الخيل تسرج والخيال معضاد صوت التسامح يدوي في وداعتهم، لكن حملانهم في الروع آساد الصبر شيمتهم، والنار تجعلهم أقوى وأنقى، كأن الموت ميلاد كالجمر إن يسكنوا، لكنه لهب حذار منهم، فإن الجمر وقاد هذا ما علمنا إياه شيخنا الإمام، وهو من كان القدوة في كل ما هو خير، وإلى شجاعته المعهودة تلك، فقد تعامل مع الطبيعة برقة ودقة، أحب أرضها وخيرها وطيرها، وتآلف معها منذ فتوته، فحول "رأس الذيب" في خلوته إلى حمل وديع، لم يغلق بابه خوفا من وحش ضار أو ردا لزائر قاصد، بل كان واثقا بربه، فاتحا مجلسه وقلبه لمن قصده، غير منعزل عن هموم مجتمعه، متصديا بحكمته ووعيه لقضايا الناس ومصير الوطن، فاحترمه الزعماء والرؤساء، وأضحت بعقلين في زمانه محجة تقصد ومعين حكمة يرتشف منه ماء الصدق والورع والشجاعة. قاعدته الأساس كانت: من لم يخف الله خاف من كل شيء ومن خاف الله خاف منه كل شيء." وهكذا كان شيخنا الورع المقدام لطيفا ووقورا في آن، صافيا، رقيقا، زاهدا عابدا، عالما، عاملا، حازما، ثائرا من أجل إعزاز كلمة الحق وزهق الباطل، مقتنعا بقوله تعالى: "إن الباطل كان زهوقا".

وتابع: "كان متورعا لا يتعدى الحق في كلامه، عفيفا خاشعا، دائم الابتهال والتأمل والبسملة والحمدلة والتلاوة، قانعا بما أعطي، مع إفراغ جهده في تحصيل ما هو أفضل، متكلا على الله وليس متواكلا، مجسدا القول بالفعل، غير طامع بحطام الدنيا ومواقع الوجاهة، معتمدا القاعدة القائلة: "لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها. لذلك عرف بأنه الشيخ القدوة العلم، والموجه الفيصل الحكم، صاحب الرأي الصواب والموقف المهاب، الثابت في الأحكام وفي القضايا، والراسخ في مواجهة الصعاب والبلايا، الفارس المقدام والسيد الهمام، الناسك المجاهد والصابر المكابد، العقلاني الواقعي والدقيق الألمعي، العارف بالله والعابد إياه، الراغب بأخراه والزاهد بدنياه، المقتدر المتواضع، المدرك قدر نفسه بعيدا عن الكبر والعجب وحب الرئاسة، والقائل تكرارا نقلا عن السيد المسيح (ع): "لا تسكن الحكمة إلا في النفوس الترابية، والكبر لا يكون في النفوس التي لا تسكن فيها الحكمة.
لقد ملأ الجزيرة اسمه، وعطرت الآفاق مناقبه، وأدهشت المتأملين خطواته ومآثره، كيف لا؟ وهو الناظر بعين التمييز واليقين، حتى بانت له أبعاد الحقائق على أحسن تقويم، وهو المتسامح بحقه والمطالب بحقوق الأخوان والدين، والمتشدد بالتزام الفرائض مع عطف ولين. الوقور بتواضعه، والجليل بمواقفه، اللطيف الرقيق بتوجيهه، المكافح في الملمات، والمندفع لقضاء الواجبات. المستقل الكثير من نفسه والمستكثر القليل من سواه".

واردف: "قلما جاد الزمان بمثله حكمة وتقوى وشجاعة ومهابة، حضوره كان كنزا روحيا للموحدين وغيابه كان فاجعة لأبناء التوحيد المسلمين المؤمنين، إذ هو المثل والمثال، الزاهد بالجاه والمال؛ زهده كان زهد الأحرار الذين خرجوا عن الدنيا قبل أن يخرجوا منها، فانسلخ من نفسه متحررا من شهواتها وأهوائها؛ زهد الأوفياء الأولياء الأتقياء، زهدا تفجرت منه العلوم والحكم والفضائل، كما قال السيد الأمير (ق): "فلاح لعلماء الآخرة أن الطريق مسدودة عن الوصول الى المعارف ومقامات القرب الا بالزهد والتقوى، فبصفاء التقوى وكمال الزهد يصير العبد راسخا في العلم".

وهو الصابر على ما يكره وعلى ما يحب، وصبره كان صبر الأولياء المقربين، صبرا في الله ولله ومع الله، حيث لا شكوى إلا إليه ولا تخلق إلا بأخلاقه تعالى، ألم يوح الله سبحانه وتعالى إلى النبي داود (ع) فقال له: "تخلق بأخلاقي، وإن من أخلاقي أنني أنا الصبور".
وقال: "وأما شجاعته وحكمته فكانتا ثمرة صفاء الزهد والإخلاص في الصبر، أفليست الشجاعة الحقيقية هي في التنحي عن زينة الدنيا وأهوائها، وفي الصبر على آلامها وبلوائها، وفي مجاهدة النفس ومواجهة الباطل والذود عن الوجود؟ وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فكانا دأب شيخنا الطاهر، وخاصة عندما خمدت جذوة الإيمان في النفوس، وظهرت البدع، فكان لسانه صادحا بالحق، داعيا إلى الخير، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، امتثالا لقوله تعالى: "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون"، أما نهيه فكان لطيفا وصارما في آن، مقدما النصيحة والموعظة الحسنة على الحزم والقسوة، ملتزما الصمت حينا، مبادرا للكلام عندما يدعو الواجب فقط، على قاعدة الحكمة القائلة: "أعقل لسانك إلا عن حق توضحه أو باطل تدحضه أو حكمة تنشرها أو نعمة تشكرها".

واضاف: "ها نحن اليوم، وباستضافة كريمة من مؤسستنا التوحيدية الغالية؛ مؤسسة العرفان، وبما نحمل من ذكريات ومبادئ وتوصيات من تلك الرعاية الأبوية الحاضنة للمؤسسة وتلك العلاقة الروحية الراسخة التي كانت تجمع المرحوم الشيخ بالعرفان، نستذكر شيخنا العلم ونتحسر على غيابه، وهل يغيب عن عيوننا ذلك المشهد المهيب المؤثر، يوم تجللت بعقلين بالسواد وزحفت البلاد والعباد من كل حدب وصوب ومن كل بقعة معروفية، ومن مختلف المذاهب والمناطق، ويوم علت أصوات التأبين والصلاة في الأوطان والمغتربات، ويوم انهمرت دموع الحب والشوق ورسمت علامات التساؤل عما سيكون بعده، وعن حال الأمة والناس بعد رحيل شيخ العصر وشيخ الجزيرة، رجل الأمانة التوحيدية، والقائد اليعسوب الذي اطمأنت إلى قيادته خلية النحل، عين الأعيان وركن الأركان، والجواد الذي ما كبا به جواد، والسيد الذي ساد بتواضعه، وبزهده في المظاهر وفي ما هو فان وزائل، وتعلقه بالجواهر وبما هو باق وخالد، والأب العطوف الذي أبى أن يميل بعاطفته إلا إلى الحق".

وتابع: لقد كان من طينة أولئك الأطهار الأبرار الذين أدركوا ما يجب أن يكون عليه الموحد المتحقق، وما يجب أن يطمح لبلوغه كل ذي عقل وحكمة من سعادة وطمأنينة وإنسانية، العارفين بأن الدين ليس هو الغاية، إنما هو وسيلة لتحقيق الغاية، وأن الغاية أبعد وأرفع من علم ومعرفة وطقس وتنظيم، عندما يسعى إليها الموحد سعيا، ويكدح إلى ربه كدحا فيلاقيه ويدرك الغاية إذاك. الغاية هي معرفة الله التي تبدأ بمعرفة النفس لا بسوى ذلك، غاية يبلغها الإنسان المتحقق بالله والعارف بالله، والمتطهر بذلك الحب وبتلك المعرفة؛ الحكمة ضالته وإدراك الحكمة غايته".

وقال: "لذلك، سعى شيخنا، إلى تطهير روحه من كل خبث ودنس وعيب ورجس، فكان شجاعا في توحيده، غير جبان، لا متردد ولا مراء ولا مساوم ولا متوان ولا متراجع، بل كان سيد نفسه، مسيطرا عليها، آخذا بزمامها، مالكا قيادها، متوجها بها إلى المقاصد الإنسانية العليا، التي هي مقاصد الدين، وغاية كل شهادة بالله ورسله، وغاية كل صلاة وكل صيام وكل زكاة وكل حج، مرتقيا إلى حيث الحقيقة، مسافرا في درجات التعاليم التوحيدية ومعارجها، بالصدق مع الذات أولا، ومع الله، وبحفظ أخوانه ومعاضدتهم وحمل هموم قومه وأهله والعمل من أجلهم، زاهدا بأمور الدنيا ولكن غير منعزل عن قضايا أهله، مندفعا للحفاظ على حقوقهم ووجودهم، غير آبه إلا بما يقتضيه الحق والواجب، تاركا كل عبادة لعدم فان من مال وجاه ولذة دنيوية، متبرئا من كل حالة طغيان وسطوة إبليسية، أكان في العقيدة أم في المسلك، في الفكر أم في النفس، من الداخل أو من الخارج، لينطلق حرا في رحاب التوحيد الحق، الذي به تعرف الأشياء وتتجوهر المعاني وتتحقق غاية الدين، وليعيش إذاك، كما عاش شيخنا دائما، راضيا مسلما، حيث الرضى هو الولاء الحقيقي لله من دون اعتراض وإكراه قلب، وحيث التسليم هو الجهاد الأكبر، نية وقولا وفعلا، وقد أتقن شيخنا هذا الجهاد في ميدانه الأرحب والأوجب قبل وبعد كل جهاد دنيوي أصغر، أكان هذا الجهاد من أجل العرض والفرض أم من أجل الدفاع عن الكرامة والأرض".
أضاف: "منذ مطلع شبابه الغض سلك سبيل التقوى، فاتسعت لعقله الراجح أفسح الميادين، فثابر على الاطلاع والتفكير، واحتكم إلى الكتاب العزيز وما فيه من حكمة، مستندا إلى النص الشريف، ملتزما التعاليم والمبادئ التوحيدية، موازنا بين العقل والنقل، مغلبا العقل ومؤولا النقل، وازنا القضايا والأمور بميزانهما، عائدا إلى الله تعالى في كل كبيرة وصغيرة، يرد إليه الأمر إذا ما أشكل عليه على قاعدة ما قاله الأمير السيد (ق): "الأمور ثلاثة، أمر تبين لك رشده فاتبعوه وأمر تبين غيه فاجتنبوه وأمر أشكل عليكم فلله ردوه".
وتابع: "عاش حياته مثابرا على تأدية فرائض الدين، متنقلا بين بيت متواضع بني على العفة والطهارة والكرم والمحبة والضيافة، وبين خلوة قرببة جامعة نهض فيها في خدمة إخوانه وجمعهم ورعاية كبارهم وصغارهم، وبين خلوة بعيدة بسيطة خالية من أي مظهر ترف وفضول عيش، إلا من طهارة المكان، وصفاء الروح والاستئناس مع الله، ولذة المناجاة والعبادة والتقوى والسعادة الروحية.
استحق بعلمه وعمله أن يكون المرجع الروحي، لكنه كان لا يستحب هذا اللقب وما شابهه من ألقاب المرجعية والرئاسة لشدة تواضعه وتأكيده على بساطة المسلك الروحانية، ولكنه كان حقا الموئل التوحيدي وصاحب الكلمة الفصل، وكما يبرز في كل مجتمع وطائفة ووطن رجال أعلام بمواقفهم الحازمة وفكرهم النير وتصرفهم المسؤول وسلكهم القويم، فقد كان المرحوم الشيخ ابو محمد جواد واحدا من أولئك الذين يحج إليهم في النائبات ويغترف من معين تقواهم ومحبتهم ويقينهم، ويقتدى بجدهم وجديتهم واجتهادهم، ومع كل تلك السمات الطيبة والصفات الراقية والموقع المميز، بقي شيخنا الجليل على بساطته الروحانية، باكيا متحسرا على تقصير أو توان منه، معترفا بالعجز والفقر، وبالحاجة إلى دعاء أخوانه، وطالبا من الله تعالى المغفرة والسماح والمعونة".
وأردف: "وتبقى العبرة في مؤسساتنا وقرانا ومجتمعنا في الاستقاء من سيرة الشيخ والسير على نهجه وتعاليمه، إعزازا لدين الله وصونا للنفوس وللمجتمع والوطن الذي كان يسأل عن أحواله دائما، وهو على فراش العجز والمرض في سنواته الأخيرة، داعيا القادة والمسؤولين إلى حسن التدبير والتبصر بالأمور، ومشددا على وحدة الصف وجمع الشمل والعيش المشترك بين أبناء الوطن، وتلك هي الرسالة العبرة التي يتوجب علينا حملها في الجبل وفي كل الأمة، أن نبدأ بأنفسنا فنصقلها على الخير والمحبة، ثم بالمجتمع القريب، وصولا إلى الأوطان والناس جميعا، وفي ذلك يكون الخلاص وتكون السعادة التي هي أبعد من الموت وأقوى".
وقال: "لقد سجل اسمه في التاريخ التوحيدي كواحد من كوكبة الأعلام الموحدين العارفين والشيوخ الثقات الأفاضل، بأيهم نهتدي نقتدي، وهو من كان المتميز بينهم بجملة إنجازات، لعل أولها احتضانه للعرفان، المؤسسة التوحيدية القدوة، وحثه القيمين عليها على الاهتمام بالتعليم الديني، معتبرا في رسالته الثمينة للمؤسسة أنه مهما تقدمت في العلوم الأخرى فهذا لا يكفي إذا لم يكن الاهتمام منصبا على التعليم الديني. وثانيها اهتمامه بالمدارس الدينية للأخوات الموحدات في القرى، إذ كان يشعر بالمسؤولية تجاههن وبواجب حثهن ومساعدتهن، كما الإخوان الموحدين، على طلب الحكمة وحفظها ودرسها وفهم معانيها والعمل بما فيها، وأنهن، كما الإخوان كذلك، مطالبون بذلك. وثالثها علاقته الرزينة مع الزعامة السياسية والتعاون معها لحفظ الإخوان والمجتمع التوحيدي، على قاعدة المطالبة بما هو حق وعدم المواجهة معها، بل التشديد على شد أزر القيادة لصون الكرامة العامة وتأكيد الحضور الوطني للطائفة، وهو ما جسدته العرفان قولا وفعلا، وما نعمل على تجسيده من موقعنا في مشيخة العقل والمجلس المذهبي، كيف لا؟ وهو من كان الداعم والمهتم بتنظيم شؤون الطائفة والمتعاطي مع القانون المقترح آنذاك بواقعية وإيجابية ومسؤولية.
وتابع: "ما بين نهار الجمعة في27/4/2012 وانتقال روحه الطاهرة بأمر ربها في صبيحة ذلك النهار، ونهار الجمعة اليوم في 28/4/2023 إحدى عشرة سنة على الغياب، سنوات مليئة بالمتغيرات والمستجدات، لكنها حافلة بالثوابت والعبر. فعسى أن نبقى على نهجه وأن نستمر معا في حمل رسالته، محافظين على الثوابت التوحيدية والمعروفية والوطنية والإنسانية، وأن نحسن التعامل مع المتغيرات، في العرفان وعلى مستوى الطائفة بالأجمع وعلى المستوى العام. هذا هو توجهنا في مشيخة العقل والمجلس المذهبي، وهذا هو توجيهنا لمجتمعنا التوحيدي والوطني بأن نقتدي بأعلامنا فنهتدي إلى الصواب، وبأن نلتقي فنرتقي، ونحن في طريقنا إلى تحقيق غايتانا التوحيدية والاجتماعية والوطنية، وأن نحصن مؤسساتنا بتعزيز الإيمان في قلوبنا، وصون القيم في عائلاتنا، ونسج العلاقات الطيبة والمتوازنة مع شركائنا في العيش الواحد والبناء الوطني المشترك، والمشاركة الفاعلة في مواجهة التحديات وصناعة المستقبل".
وختم: "لو لم تكن هناك حدود للوقت وللقول وللطاقة عندنا، لكان الكلام لا ينتهي بساعات وساعات، لكن اسمحوا لي أن أختم فأقول بعضا مما قلته آنذاك قبل أن أسكت، "وفي السكوت كلام بعد ما كتب"، فأقول ما قلته في يوم الوداع:
ألا بوركت يا شيـخ البــلاد بزهدك، بالمحبة، بالجهـاد
ألا بوركت من علم ورمـــز حبـاك الله أسرار الرشاد
إذا نام العبــاد تلوت سر الـدعاء، مناجيـا رب العباد
وإن جمعـوا من الأرزاق زادا جمعت العلم زادا، خيـر زاد
أو اختلفوا على الدنيــا طماعا رضيت وكنت مرتـاح الفؤاد".

المصدر : جنوبيات