عام >عام
رحيل المطران الفدائي هيلاريون كبوجي
رحيل المطران الفدائي هيلاريون كبوجي ‎الأربعاء 4 01 2017 09:10
رحيل المطران الفدائي هيلاريون كبوجي

هيثم زعيتر

حملت بداية العام 2017 نبأ رحيل المطران هيلاريون كبوجي، مطران القدس في المنفى والنائب البطريركي للقدس في روما (عن 94 عاماً).
"المطران الفدائي" ناضل من أجل القضية الفلسطينية في شتى المجالات ومختلف الوسائل، حيث أصبح عنواناً بارزاً من عناوين القضية الفلسطينية، وأحد أبرز المناضلين في صفوفها، ومجسّداً حقيقة قدسية القضية الفلسطينية، وأنّها لا تقتصر على أبناء فلسطين فحسب، ولا على المسلمين فقط، ولا على القيادات غير الروحية، ولا حتى على سن معيّنة، ولا جنسية، صانعاً نموذجاً فريداً من النضال من أجل أقدس القضايا.
هكذا هو المطران كبوجي، الذي تفتّحت ذاكرتنا على إسمه، وعرفناه لاحقاً عن كثب، سوري الجنسية.. كاثوليك المذهب.. لبناني الهوى.. فلسطيني الانتماء.
هذه النماذج لرجل الدين المولود في حلب، بتاريخ 2 آذار 1922، أكدها منذ وعيه على الحياة، حيث انتقل في العام 1933 إلى "دير المشير" - قرب عاليه في لبنان، وبقي حتى العام 1944، فالتحق بـ"دير سانت آن" في القدس، وتابع دراسة اللاهوت وسُيّم كاهناً في العام 1947، قبل أنْ يصبح رئيساً عاماً للرهبانية الباسلتية الشورية ومركزها دير الشير في العام 1953، واستمر حتى العام 1962، ثم عيّن رئيساً عاماً للرهبانيات الحلبية في العام 1963، وسُيّم مطراناً بتاريخ 6 تشرين الثاني 1965، وعيّن رئيساً فخرياً لأساقفة قيصرية في فلسطين، ونائباً بطريركياً في القدس للروم الكاثوليك.
وبعد الاحتلال الإسرائيلي، لأول عاصمة عربية، مدينة القدس في العام 1967، كان للمطران كبوجي دور هام في تثبيت المقدسيين في مدينتهم، مفشلاً مخطّط ضرب المسلمين والمسيحيين، بل مجسّداً التلاحم بالتصدّي لقوّات الاحتلال، فتعدّت عظاته ومواقفه الإعلامية إلى صياغة بيانات وتحرّكات كانت فيها بصماته واضحة، وصولاً إلى دعمه للمقاومة ونقله السلاح للفدائيين.
راقبه جهاز الأمن الإسرائيلي الذي أخذ يتتبع خطواته وتحرّكاته، فأقدم على اعتقاله بتاريخ 8 آب 1974 داخل سيارته المحمّلة بالمتفجرات وهي متّجهة إلى القدس، ونقلت السيّارة ومن فيها إلى مركز شرطة الاحتلال في حاكورة الموسكوبية في القدس، حيث تمّ تفكيكها وتفتيشها، وعُثِرَ على 4 رشاشات كلاشينكوف ومسدسين وعدّة طرود تحتوي على متفجرات بلاستيكية وصواعق كهربائية وقنابل يدوية وخلافها..
وخلال التحقيقات معه أنكر المطران معرفته بما تحتويه السيّارة، وأن الأسلحة والمتفجرات نقلت إلى السيّارة دون علمه، إلا أنّ مستند الإدانة كان المغلف الذي عثر عليه بين أمتعته ومدون عليه بخط يده رقم المسؤول في حركة "فتح" في لبنان "أبو فراس"، حيث اعترف بأنه تلقى منه في نيسان 1974 حقيبتين، أخفاهما داخل سيارته ونقلهما إلى الضفة الغربية - كما طلب منه - ووضعهما داخل مدرسة الكنيسة اليونانية الكاثوليكية في بيت حنينا، وأنه أيضاً طُلب منه في شهر تموز من العام ذاته، نقل أسلحة تمّ إخفاؤها في أماكن عدّة داخل سيارته، لكن تمّ ضبط هذه الأسلحة لدى اعتقاله.
وجرت محاكمة المطران كبوجي، وصدر بحقه حكم بتاريخ 24 أيلول 1974 قضى بسجنه لمدة 12 عاماً، لكن بناءً لطلب البابا بولس السادس أفرج عنه بتاريخ تشرين الثاني 1977 مع إبعاده عن فلسطين، واشتراط عدم تدخّله بالسياسة، فعيّنه الفاتيكان زائراً دينياً للطائفة الشرقية في أميركا اللاتينية، حيث التزم بذلك، على ألا تتعدّى المدّة أكثر من 3 أشهر، حيث مرّت دون اتصاله بأحد، مدركاً أنّ هناك مؤامرة لإبعاده عن فلسطين.
لكن مَنْ رضع حليب الفداء ونصرة المظلومين أصبح من أبرز الدعاة للقضية الفلسطينية، وفي شتى المجالات، فاستقل طائرة من الأرجنتين باتجاه سوريا التي وصلها بتاريخ 19 كانون الثاني 1979،  ليشارك في أعمال المجلس الوطني الفلسطيني.
ولم يمنعه تقدّمه في السن من مواصلة النضال من أجل قضية فلسطين، فشارك في "سفينة الأخوة" بتاريخ 4 شباط 2009، منطلقاً من شمالي لبنان باتجاه غزّة لكسر الحصار عنها، حيث اعتقل مع عدد من المتضامنين، وأطلق سراحه عند بوابة الجولان.
ثم شارك في "أسطول الحرية" بتاريخ 31 أيّار 2010، الذي تعرّض إلى هجوم من قبل قوات الاحتلال ما أدى إلى سقوط شهداء وجرحى في سفينة "مافي مرمرة"، فاعتقل وأُبعد إلى الأردن، ومنها عاد إلى سوريا بتاريخ 8 حزيران 2010.  
الشغوف لتكحيل عينيه برؤية فلسطين وتنشق هوائها العليل قبل أن يغادر الدنيا، حقّق له الاحتلال أمنيته مرّتين، بعد أن اعتقل فيهما وهو على متن سفن التضامن، ونقل من أقصى الجنوب الفلسطيني إلى شرقها وشمالها.
وكما كان في مختلف مراحل حياته، زاهداً في العمل على الوحدة الوطنية والقومية والعربية، وأيضاً المسيحية والإسلامية، حقق ذلك بأنْ شارك في الصلاة التي أُقيمت بعد الفجر على متن سفينة التضامن في العام 2010، مجسّداً صورة عن التعايش بين الديانات التي أحوج ما نكون إليها في أيامنا الراهنة، حيث يتم القتل باسم الدين وهو منهم براء.
وجرى تكريم المطران الفدائي، في فلسطين ولبنان وسوريا، والعديد من الدول، التي أصدرت طوابع تذكارية تكريمية له.
لقد شكّل المطران القديس نقطة تحوّل هامة في تاريخ الصراع العربي - الصهيوني يحتذى بها، نظراً إلى تميّزها في كافة محطاتها ومفاصلها.
اليوم يرحل المطران كبوجي، وهو الذي اعتصر قلبه باستمرار الاحتلال الصهيوني لفلسطين، والجولان السوري، ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا في لبنان، وحالة التمزّق التي تعيشها سوريا والعديد من الدول العربية، وهو الذي كان قد وعى باكراً مخاطر المخطّط الهادف إلى تفتيت وإشغال الدول العربية خدمة للكيان الصهيوني.
يغيب المطران جسداً، وكله أمل بأنّ في الأمة العربية مَنْ سيواصل النضال، فها هم الفتية في تونس الذين اتخذوه قدوة لهم، بعدما تفتّح وعيهم على ذاكرة الأمل الذين يعرفون المطران الفدائي عن كثب، وكانوا يجدون به ملجأ: مسلمون ومسيحيون عند الشدائد.
يرقد جثمان الراحل في حضن والدته في لبنان التي احتضنها بعد وفاتها، وهو بذلك يُؤكّد على نموذج جديد بأن يوارى الثرى في بلاد الأرز، ليبقى مرابطاً في بلاد الشام، ومطمئناً على لبنان في خياله، وعينه على سوريا حيث الولادة وأخرى على فلسطين، حيث سار على درب الجلجلة طالباً الشهادة.

 

المصدر : اللـواء