الأربعاء 18 آب 2021 14:09 م

موشحات القلوب


* علي زعرور

في موته المحتوم غصة تسللت إلى موشحات قلوب آثرن على استنشاق عطفه منذ الخفقة الأولى من ولادتهن، وعبرات سكنت على أفواه مقلهن تجاهر بقساوة الفراق ومشهدية الغياب الأبدي.

كانت اللمة تشق طريقها بعد أن عزم صاحب الترحال أن يرمي بحمله في أحضانهن  زهاء ثلاثين سنة من الغربة المرة بحثا عن رزق يدثر فيه حاجتهن، كيف لا وهو ياء المنادى لنون النسوة الأربعة والخامسة المعطوفة على  زواجه،  حبيبته الذي امتهن فن مخاطبتها بلطافة لم تشِبها شائبة ،  والذي واظب على اغداق  زاده في سلال عمرهن كي يتفتحن في نياط قلبه ويكبرن في كهف أضلعه التي نحت فيهن صورهن الانثوية بعيدا عن الذكورة التي لم يمنّ الله عليه فيها، فكنّ شمولية وصف وصورة غيبت من ذهنه نمطية موروثات لم تخرج من كوّة مجتمع ضيق الأفق يعتبر ان الذكورة استمرارية للنسل الإلهي. 

الغائب الحاضر في حياتهن اليومية، صاحب الأحرف الأربعة "محمد" جعل من  الشوق بريده السريع قبل أن يتحضر لعطلة شهرية يحاول فيها ان يبني مداميك أبوته بلُبنة من شوقٍ وحنان وطيبة سجلت له عبر وكالة حصرية لا يمكن لأحد أن يتشابه معه او يتماثل بالفعل فيها. 

بموازاة مشهدية الحياة كانت ذاكرته تسجل أحداث وتفاصيل بلوغهن مقتبل العمر وانكبابهن على تحقيق سنابل أمانيهن بعيدا عن مناجل الزمن المر والقاسي. 

في حاضنة أب كبرن وأثمرن  اكتمالا افترشن فيه حياتهن الزوجية وميدان عمل فخر بما بلغوه من ذروة في خطوات مستقبلهن المهني، فكانت خلطة أمانيهن تجمع بين الطب والفيزياء والأدب، وكانت موائد أفعالهن شاهدة على يقين بان لا فرق بين نون النسوة وياء الذكورة. 

لم يتركهن القدر في سعادتهن المخملية، وتحايل على أن يباغتهن حين عزم على تمضية ما تبقى من عمره بين ربوعهن بعيدا عن الغربة وشظف الحياة،  تبادلن الأدوار، في رد قسطٍ من الغنج والدلال الذي أفردها القلب وبسطتها مسارحه بلهفة. 

تسلل المرض على غفلة وجعل من الأحرف المحمدية بداية أفول الحياة، زيت قنديله بدأ يجف على وقع قساوة علاجات كيميائية ومن ثم نووية لم تستطع ان تظفر بنصر على عدو بسط سيادته على تنفسه ولم يأذن له في مراحله الأخيرة ان يتنفس هواء طبيعيا، بل كانت ترافقه أجهزة  تراقب أنفاسه، فكانت الفاصلة بين البداية والنهاية. 

في اليوم الثاني من محرم كان وقع الخبر صادما، بعد انتظار ضجت به أرجاء العناية الفائقة في المستشفى، كل شيء أضحى مصطنعا وهو جاثم بلا حراك على سرير أبيض يتسربل ضوء وداعته وطيبته إلى مقلتيه وهدوئه الذي كان يترجم ايمان أفعاله، كان يدرك انها لحظات معدودة ويفارق الحياة، بينه وبين نفسه أحتضار الروح وبينه وبينهم وفاة محتومة. 

كان نعيا قسريا، الزمته بيروقراطية متسلطة، انتهزت حالة الموت لتقتنص ربحا ماديا على حساب جسد انهكه خبيث سرطاني، فكانت الطامة الكبرى ان سجل في خانة وفيات لمرض متداول حرم احبائه من وداعه، لكنه لم يحرم عائلته منه متجاوزة كل بروتوكولات هذه الحالة المصطنعة المزيفة، عانقوه بغصة الرحيل بعد أن وأرى الثرى غير مبالين الا للأحبة الذين تقاطروا إلى داره في مواساة تجاوزت التوقعات ودثرت محبتهم  في موشحات القلوب.

المصدر :جنوبيات