الأربعاء 13 نيسان 2022 13:30 م

قصة اغتصاب معلن: الطبيب الشرعي وضابط المخفر يبتزان الضحية


* جنوبيات

بعد ما يقارب أعواماً خمسة على إلغاء الجزئي للمادة 522 عقوبات المتعلقة باستفادة المُغتصب من العفو عنه إذا تزوج المجني عليها، ورغم حملات التوعية ومبادراتها، ومشاريع القوانين للحدّ من جرائم الاعتداء الجنسي والاغتصاب، وإصدار القانون الرامي بتجريم التحرش الجنسي ولاسيما في أماكن العمل، بعد هذا كله لا يزال السّؤال مطروحًا: لماذا لا تزال معدلات العنف الجنسي المتمثل بالتحرش والاغتصاب (غير الزوجي) تتصاعد طرديًا؟ وهل يتغاضى الأمن والقضاء والمشرعين عن هذه الجناية وآثارها؟
قد يستعصي علينا حصر الإحاطة بقضايا العنف الجنسي في لبنان، وكيفية تعامل الجهات المعنية معها. فهذا النوع من العنف من الجرائم التّي تُدرج تحت مُسمى "الأعمال المنافية للحشمة" والتّي يسهل تفلتها من العقاب، بدليل تكدس ملفاتها في أدراج النيابة العامة والمحاكم. ثم أن هذا النوع من العنف مُرتبط بواقع اجتماعي يبرره، وبواقع قضائي محكوم بتشريع مُنطلق من أعراف وفلسفات مهيمنة، فيصير العنف الجنسي إثمًا يُعدّ ولا يُعدّ جريمة في دولة اللاقانون.

استدراج واغتصاب
نعرض هنا حوادث وحالات لهذا النوع من العنف.
لين (اسم مستعار، 27 سنة، لبنانية، ماجستير في الصحة العامة، مقيمة في بيروت) تعرضت في 26 كانون الثاني 2022 إلى جريمة اغتصاب. والمغتصب رجل تعرفت عليه عبر تطبيق فايسبوك. وحدث جرم اغتصابها عندما التقته بناءً على موعد بغية التعارف والصداقة. شخصان (صديقتها وصديق المعتدي) شهدا واقعة استدراج الصديقتين وخطفهما واغتصابهما في مكان عام. ورفعت لين شكوى متخذةً صفة الادعاء الشّخصي على المعتدي وصديقه بجرم الاغتصاب والسّرقة. ولا يزال المعتدي وصديقه يسرحان ويمرحان بفائض ذكوريتهما بغطاء سياسي وأمنيّ، ولم تفض التحقيقات بآلياتها البالية إلى نتيجة.

تروي لين ما حدث: "ليلاً في جنوب صيدا تعرضت وصديقتي للخطف على يد المدعو خ. م. (31 سنة، لبناني) بعدما تعرفت عليه وتواعدنا على لقاء اصطحبت صديقتي إليه، وكان معه صديقه ع.ح. (19 سنة، لبناني). بعد استدراجنا ومحاولات شتى لمقاومة اعتداءاتهما الجسديّة والجنسيّة الصادمة، رُمينا في شارع صيداوي مقفر".
وأفادت أنها لم تتوجه وصديقتها على الفور إلى مخفر قريب بفعل الصدمة وخشية المضايقة أو ظن عناصر المخفر بأنهن بائعات هوى.. لذلك توجهت عشية اليوم الثاني إلى طبيب شرعي، بعد أن رفضت صديقتها "تضخيم الأمور"، فهي من بيئة محافظة. وحصلت لين على تقرير يُفيد بتعرضها لمحاولة "اعتداء جسدي واغتصاب". وتصف زيارتها للطبيب الشرعي: "في البداية سألني عن طبيعة حياتي الجنسيّة ثم تطرق إلى الحادثة. كان صوته مشوبًا باللّوم والسّخرية، مكررًا قوله: يا بنتي شو صاير عليكِ. وبعد الفحص وأخذ العينات، أشار الطبيب إلى العطل والضرر في نهاية تقريره".

ولعل الطبيب الشّرعي هو جهة التوثيق الأولى لإثبات الجرم. لكن اللجوء لمثل هذا الإثبات في لبنان يشكل عبئًا لا بدّ منه، لأسباب عدّة: الميل إلى لوم الضحية والتشكيك بمصداقيتها وتسعيرة الكشف التي تترواح بين 70 دولاراً أميركياً وصولاً إلى 400 دولار، يشترط الطبيب دفعها مسبقًا. وهناك أطباء يصورون مناطق حساسة من جسد الضحية وإبقائها لديهم، ما يدفع الضحية للرهبة والشعور بالحرج والتخوف من كشفها لذويها في حال لم يكونوا على علم بالأمر. فمعظم الضحايا تتكتمن على ما تتعرضن له خوفًا من القتل أحيانًا بحجة الشرف أو تزويجها بالمغتصب كما تجري العادة.

مكتب مكافحة الاتجار بالبشر وحماية الآداب
"شو الصبايا جايين لعنا؟"، بهذه العبارة استقبل الحارس المسترخي أمام مخفر حبيش- فصيلة راس بيروت لين ساخرًا منها، وكأن الولوج إلى المخفر حكم فوري على الداخلة بأنها سيئة السّمعة أو متهمة بخدش الحياء والآداب العامة. دخلت لين وقدمت شّكواها التّي حوّلتها النيابة العامة في صيدا إلى قسم شرطة الآداب. وبعد زهاء شهر تلقت لين اتصالًا من المخفر للمباشرة بالتحقيق معها وتقديم إفادتها.

وروت: "بعد التحقيق بيومين، وتقديم إفادتي التي رويت فيها ما حدث لي، ورغم أن المحقق تعمد سؤالي أسئلة شخصية لا تمت إلى القضية، هيمن جوّ من التقبل والمهنية. وبعد ذلك اتصل بي رابط (مرتبة تنظيمية) حزب الله في قرية المغتصب المدعو محمد.غ. وحاول مساومتي بالمال وتقديم الخدمات. وعندما رفضت هددني، فأقفلت الخط وقررت إعلام المحقق بذلك". وتابعت لين: "عندما تبلغت أنه عليّ المراجعة في مخفر حبيش للمرة الثانية، انقلب كل شيئ ضدي: سخرية وازدراء ممنهجين. استهل الضابط خطابه قائلًا إن قاضي التحقيق اطلع على ملف الشّكوى، فوجدها غير مُقنعة أبدًا. فصديقتي لم تحضر للتحقيق، رغم أني أعلمتهم سابقًا أنها قطعت علاقتها بي، والمستندات والأدلة التّي قدمتها كافية، غير أنه لم يستمع وطلب مني رقم هاتفي الخاص. وأدخلني إلى غرفة أغلق بابها في انتظار استكمال التحقيق مع الجناة". وهنا فوجئت لين بأن المُدعى عليهما كانا يتناولان الفطور في المخفر. فالضابط طلب لهما مناقيش، "لأنهما جايين من الجنوب وتعبانين"، قال. ورأتهما يدخنان، فيما "مُنعت حتى من شرب الماء. وسمح لهما الضابط بالكلام وراح يصرخ عليّ ويسكتني كلما أردت الكلام، كأني أنا الجانية وهما الضحية. وبعد خروجهما من المخفر، خاطبني الضابط الذي كان مسترسلاً في تقليب وقراءة دردشاتي الخاصة مع أصدقائي على وسائط التواصل الاجتماعي والنظر في صوري، ثم قال لي: شايف أنه عندك حركات مع شباب. فأجبته بأن هذه حياتي الشخصية. فرمى هاتفي المحمول أمامي وقال لي: تيسي، انطري المحاكمة وما كتير تتأملي".

ذكورية وأحكام ضحلة
هذه الطرق في التعامل ليست جديدة على المخافر عمومًا ومخفر حبيش خصوصًا: سلوك ذكوري مفرط، لوم فج ووقح للنساء ومجتمع الميم. وهذا من الأسباب التّي تسهم مباشرة بضآلة عدد التبليغات ودعاوى الجنايات المتعلقة بالاعتداء والعنف الجنسي ووصولها إلى محاكم الجنايات. ناهيك عن المركزية التّي تُصعب تقديم الشكاوى والتبليغات من الأرياف والأطراف والبلدات النائية. والبيروقراطية الفادحة التّي تعرقل مسلك العدالة للضحايا، فضلاً عن سيادة الأحزاب السّياسية السّلطوية واللاشرعية ودعمها الجناة.

والقضايا هذه تغلب عليها وصمة اجتماعية تنعكس طرديًا على الضحايا بسبب أحكام القانون، وفي ظلّ التوتر الذي تشهده بين القانون الجزائي العام وقانون الأحوال الشّخصيّة الخاص. ولا تزال النساء الراشدات والقاصرات رهينات المنظومة الذكورية بتشريعاتها المخففة والتّي تقصي الجناة عن الجريمة بقواعد قانونية ملتوية. وإن حصل حكم وعقاب يظلان جزئيين. وهذا يفقد الثقة بالنظام القضائي لدى معظم النساء، إضافة إلى غياب تعويضهن النفسي والمادي والمعنوي عن مثل هذه الجرائم.
 
وإلى الأزمة الأمنية والاجتماعية، هناك بُعد آخر لموضوعنا: حق النساء بقوانين عادلة تحميهن في منازلهن وفي الأماكن العامة، وحقهن بالعدالة عند تعرضهن لأي نوع من العنف، الجنسي خصوصًا. لكن المنظومة التشريعية والقضائية والأمنية الذكوريّة، تمعن بفسادها في حرمان النساء من حقوقهن، وبالتالي تغييبهن.

فحقوق المرأة اليوم في لبنان بحاجة ماسة إلى إعادة تأهيلها: إخراجها من قيم النظام الأبوي اللاقانوني، والذي أسقط من اعتباراته حق المرأة بالأمان والعدالة، وردع المؤتمنين على توثيق الجرائم المتعلقة بالنساء عن سلوكهن الذكوري.

المصدر :المدن