السبت 18 آذار 2023 21:24 م

طارق متري في صناعة السياسة الخارجية الوطنية وتأريخها


* جنوبيات

لم تقتصر المواجهة مع العدوّ في ذلك الصيف الحارّ من العام 2006 على الميدان، بل كانت شديدة وخطيرة أيضاً على جبهة السياسة والديبلوماسية. كان التحدّي كبيراً في كسب الحرب في عقول الساسة الدوليين وصناع القرار ومع حكومات الدول المعنية بالمنطقة ولبنان وإسرائيل، وبالقدر نفسه أمام الرأي العام العالمي ووسائل الإعلام الكبرى المنحازة تاريخياً إلى دولة العدوّ.

في نيويورك خاض لبنان تلك المعركة، ليس في أروقة الأمم المتحدة وحسب بل كان عليه محاولة مقارعة العدو في وسائل الإعلام، الأميركي خاصة، بسبب تأثيره الكبير على الرأي العام في ذلك البلد وبالتالي على الساسة فيه، أو على الأقل الحدّ من تفرّد العدوّ في نقل صورته المشوّهة عن الحقائق. وفي هذا الميدان، تمكّن طارق متري، الذي كان وزيراً للثقافة ووزيراً للخارجية بالوكالة والذي انتدبته الحكومة آنذاك لتمثيل لبنان في اجتماعات مجلس الأمن، من القيام بما يصعب أن يتولاه شخص فرد، في التعبير عن موقف لبنان الموحّد من الأزمة وإيصال الصورة الصحيحة عن حقائق الأمور، متسلحاً بخبرته وثقافته السياسية الدولية وكفاءاته الفكرية واللغوية.

النجاح في التأثير بالرأي العام نسبيٌّ طبعاً و لا يقاس إلّا بمقياس موازين القوى بين لبنان ودولة العدو ومن منطلق سيطرة مؤيّديها تاريخياً على صناعة ذلك الرأي العام في الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً. وهكذا إنّ من يتمكن من إيصال فكرته الأساسية ومن إعطائها حيزاً هاماً من اهتمام الوسائل الإعلامية يكون قد نجح بالفعل. والفكرة الأساس كانت أنّ لبنان معتدىً عليه وأن إسرائيل لم تكن تمارس حقها بالرد على اعتداء طالها، كما كانت تزعم، بل في أنها تشنّ حرباً مدمرة على لبنان برمّته وعلى شعبه وترتكب جرائم حرب وتقتل المدنيين، وقد تمكن لبنان الرسمي حينها من إيصال هذه الفكرة متسلّحاً بوحدة الموقف الداخلي والصمود في الميدان.

بعد مرور ما يزيد عن ستة عشر عاماً على الأحداث، صدر كتاب الدكتور متري "حرب إسرائيل على لبنان 2006، عن قصة القرار 1701" عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. لا يدّعي الكتاب، بحسب المؤلف، الردّ على المواقف أو الإجابة على التساؤلات التي تتدافع كل مرة يقع فيها حادث في المنطقة الواقعة جنوب الليطاني أو عند بروز اعتراض على سلوك القوات الدولية، فهو "يلقي الضوء على الالتباسات التي كثيراً ما تعرفها قرارات الشرعية الدولية والصعوبات المتوقّعة لجهة ما تنص عليه"، من خلال "استعادة مسار الدبلوماسية في زمن تلك الحرب". فقرار مجلس الأمن الدولي يخضع منذ صدوره في 11 آب 2006 وحتى اليوم، "لتأويلات كثيرة"، كما يقول الكاتب، الذي يؤكّد بأنّ ذلك لا يُردّ إلى "غموض في نصّه، إذ هو تفصيلي وواضح، بقدر ما يكشف عن التعدّد في إدراك التبعات التي يحتملها معنى احترامه، طبقًا لتعدّد المعنيين ودوافعهم الظرفية".

هذه الدوافع الظرفية للمعنيين، التي أشار إليها الكاتب، جعلت مهمة القوات الدولية وطبيعة ولايتها ومدى حرية الحركة التي تمتلكها في الجنوب، مسألةً إشكاليةً هي الأبرز. وهذه المسألة ظهرت منذ اليوم الأول للمفاوضات الدولية حول وقف إطلاق النار، أو وقف الأعمال العدائية، الذي كان مطلوباً أن يترافق مع إعادة نظر بمهام القوات الدولية وبحجمها كي تتحول إلى ضامن لهدوء دائم على الحدود. وهكذا منذ صياغة القرار الدولي دار صراع حول اسناده إلى أحد الفصلين، السادس أو السابع من ميثاق الأمم المتحدة، مع ما يترتب على كل من هذين الخيارين. والكتاب يوثّق كيف تمكّن لبنان آنذاك من تحقيق مطلبه بأن يُستبعد الفصل السابع مع ما يحمله من تدابير زاجرة يعطيها ذلك الفصل لمجلس الأمن تصل إلى استعمال القوة لفرض تنفيذ المهمة. ولكن صدور القرار بالاستناد إلى الفصل السادس لم يمنع من توسيع مهام القوة الدولية وزيادة عديدها الذي سبقه إقرار مجلس الوزراء مبدأ انتشار الجيش جنوب الليطاني. فالاتفاق على قرار تحت الفصل السادس "لا يعني جعل القوة الدولية مجرد قوة مراقبة محدودة الفاعلية"، ولا شيء يمنع من تفويضها بمهمات "تتعدى المراقبة إلى الحؤول دون انفجار الأوضاع العسكرية وإلى المساهمة في منطقة انتشارها ببسط سلطة الدولة على كافة أراضيها".

الكتاب الذي صدر قبل حادثة إطلاق النار على آلية تابعة للكتيبة الإيرلندية في قوات الطوارئ الدولية في بلدة العاقبية أواخر العام المنصرم، والتي سقط فيها أحد عناصر تلك الكتيبة، يبدو كأنه استبق تلك الحادثة حيث أكّد بأن القرار 1701 يعطي القوة الدولية حرية الحركة في الجنوب، وهذا القرار، كما جاء في نصّه، وإن كان يشدّد على تعاون تلك القوات مع الجيش اللبناني الذي كُلّفت بمساعدته والتنسيق معه، فإن قيامها بمهماتها "لا يشترط مرافقة الجيش اللبناني لها في كل خطوة من خطواتها، فقرار مجلس الأمن يأذن لها باتخاذ جميع ما يلزم من إجراءات في مناطق انتشارها، وبحسب ما ترتأيه وفي حدود قدراتها".
الولاية الممنوحة للقوات الدولية تتكرر، كما يقول المؤلف، عند اتخاذ قرار التجديد السنوي في 31 آب من كل عام. وتختلف صيَغُ القرارات السنوية تبعاً للسياق الميداني في جنوب لبنان، ومن التغييرات التي حصلت على تلك الولاية وذكرها الكتاب ما تضمنه القرار الصادر في صيف العام 2022 الذي تضمن تأكيداً قوياً لعدم حاجة القوات الدولية إلى إذن مسبق من أحد للاضطلاع بالمهمات الموكلة إليها، فضلاً عن السماح لها بإجراء عملياتها كافة، بما في ذلك الدوريات المعلَنة وغير المعلَنة. هذا التأكيد أو التغيير، الذي رافقه اعتراض علني على تحرك القوات الدولية من دون مرافقة الجيش لها، بدا أنه قد فقد جدواه بعد حادثة العاقبية وما قد يترتب عليها من خطوط حمر متجدّدة.

يوثّق الكتاب اللقاءات والتطورات الدبلوماسية مع المسؤولين الدوليين وصنّاع القرار في الأمم المتحدة والدول المؤثرة، التي تزامنت مع الأحداث وتأثرت بها وبالجرائم التي كان يرتكبها العدو يومياً وبانتهاكاته للقانون الدولي الإنساني وقوانين الحرب، في مسار تصاعدي للعمل الدبلوماسي توصّلاً إلى وقف الأعمال الحربية. وعملية التوثيق هذه أتت في إطار أقرب إلى رواية الأحداث مع ما تتضمنه من مذكرات وشهادات.
لغة الكتاب تجمع البلاغة والسلاسة في آن، ومن عرف الكاتب شخصياً وسبق له أن حادثَهُ شعَرَ أنه يُجالسه حقاً عند قراءته الكتاب، فهو في حديثه وكتابته صاحب أسلوب فريد، وفي الحالَيْن يتميّز بالدقّة في التعبير واختيار المفردات والحرص على عرض الوقائع بأمانة وعلى إيصال أفكاره وتحليله الخاص بكثير من تواضعٍ لا ينتقص من وضوحها ومن جرأة قائلها.

في إطار روايته للظروف التي أحاطت بالمهمة الشاقة لم يُخفِ الكاتب حسرته على "ما آلت إليه أوضاع الدبلوماسية اللبنانية" وفي خضمّ المعركة الدبلوماسية التي خاضها باسم لبنان في الأمم المتحدة، عبّر عن أسفه "لأن السفراء اللبنانيين لم يكتبوا برقيات كثيرة" ولم يتلقّ من أحد شيئاً. لكن متري وعلى رغم واقع الدبلوماسية اللبنانية الموصوف كذلك أنصف من عاونوه في تلك المهمة وأظهروا كفاءة وإخلاصاً وأشار إلى هؤلاء الدبلوماسيين بأسمائهم مُرجعاً إليهم الفضل في ما قدّموه.

قد يكون سبب تأخير صدور الكتاب، انشغالات المؤلف التي تلت انتهاء عمله الوزاري ولا سيما المهمة الدولية التي أنيطت به في ليبيا كممثل للأمين العام للأمم المتحدة أو سواها من مهام سياسية أو أكاديمية تولاها وآخرها رئاسة جامعة القديس جاورجيوس في بيروت في مرحلة التأسيس. وقد يكون السبب الذي أخّر النشر هو الانقسام السياسي الحادّ الذي تلا صدور القرار 1701 حيث تبدّد التوحّد الظرفي الذي كان قد ظهر مرحلياً في مواجهة العدوان، وأصبح قسم من لبنان الرسمي ولا سيما الذي اضطلع بمهام سياسية ودبلوماسية أنتجت القرار الأممي وحققت وقف الحرب والانسحاب، في موقع الدفاع، رغم الدور الحاسم الذي حققه المسار الدبلوماسي في ذلك العام لصالح لبنان ولا سيما في منع صدور قرار أممي تحت الفصل السابع كما كان صُنّاع القرار في ما يسمى بالشرعية الدولية مصمّمين، أو بمنع إطالة أمد العدوان بموافقةٍ أو بغضّ نظرٍ من هؤلاء، لإعطاء المجال والوقت الكافي لإسرائيل لتحقيق أهدافها التدميرية.

الكتاب يُبيّن أنّ الجهد الدبلوماسي والسياسي الوطني، مدعوماً من الوفد العربي الذي شارك بفعالية في المفاوضات في الأمم المتحدة إلى جانب لبنان، تمكّن من إنهاء الأيام العصيبة التي عاشها لبنان في صيف العام 2006 بصدور قرار من قبل مجلس الأمن بوقف الأعمال الحربية بشكل دائم وإلى انسحاب إسرائيلي كامل بالتزامن مع انتشار القوات الدولية والجيش اللبناني في الجنوب، وأسّس لوجود أممي فاعل في الجنوب وفق تفويض لا يتناقض مع الإجماع اللبناني الذي عبّرت عنه حينها قرارات مجلس الوزراء.
من هذا المنظار يُعدّ كتاب طارق متري الذي طال انتظاره عملاً تأريخيّاً ضرورياً لمرحلة هامة لم تنتهِ فصولها بعد، ونموذجاً لصياغة وتنفيذ سياسة لبنان الخارجية على أسس وطنية ولتصوّر إعادة بناء الدبلوماسية اللبنانية المترنّحة، ومرجعًا لا غنى عنه ازدادت أهميته وآنيّته بفعل استمرار الأوضاع المتوترة في الجنوب والإشكاليات المتكررة مع قوات الطوارئ الدولية العاملة هناك، فضلاً عن الخروق الإسرائيلية للقرار الدولي والتي لم تتوقف منذ إقراره.

المصدر :النهار