بأقلامهم >بأقلامهم
سوريا... محطات تاريخية محورها فلسطين
سوريا... محطات تاريخية محورها فلسطين ‎الاثنين 1 04 2024 20:29 العميد محمد الحسيني
سوريا... محطات تاريخية محورها فلسطين

جنوبيات

لم يكن شتاء العام 2012 فصلاً عادياً من الفصول التي مرت أو ستمر على عاصمة الجمهورية العربية السورية "دمشق"، حين عاشت لحظات مصيرية بين الانهيار الكلي ليس للنظام فحسب بل لكل مندرجاته، أولها العداء للكيان الصهيوني وثانيها العلاقة الاستراتيجية مع الجمهورية الاسلامية في ايران وثالثها التاريخ الطويل من التعاون والتنسيق مع روسيا الاتحادية … وبين الرّدع الكلي للحفاظ ليس على حُكم البعث فحسب بل على الإنجازات التي حققها على مدى عقود من دعم واحتضان للمقاومتين الفلسطينية واللبنانية في مواجهة الاحتلال الصهيوني لفلسطين وجزء من لبنان، وبالأخص منذ ما بعد اتفاقية أوسلو العام 1993 التي فُسّرت كمحاولة لعزل سوريا عن محيطها، والتسويف في مبادرة السلام السعودية التي أُعلن عنها في مؤتمر القمة العربية في بيروت العام 2002 ووافقت عليها سوريا ...
هذه اللحظات التي عَبَرَت بدراماتيكية غير مسبوقة، انحبست فيها الأنفاس إلى ما قبل الرمق الأخير، مُسجلة في رُزنامة الزمن أشهراً قليلة من اللاستقرار الأمني والعمليات العسكرية بين كرّ وفرّ داخل شوراع دمشق ومحيطها، بين مسلحي المعارضة بكل أطيافهم وانتماءاتهم الخارجية من جهة والجيش العربي السوري وحزب الله من جهة ثانية، الذي كان قد اتخذ قرارا تاريخياً جريئاً بالوقوف إلى جانب آخر القلاع العربية التي مازالت سداً منيعاً أمام سياسات الانفتاح والتطبيع مع الكيان الغاصب، والراعية الأساس للتنظيمات الفلسطينية المقاومة بمن فيهم حركة حماس…
هذه اللحظات التي حُسمت فيها الغَلَبة لبقاء دمشق عاصمة الحقوق المشروعة للقضية الفلسطينية والحقل الجيوستراتيجي للمقاومة الاسلامية، أدت الى تبدل في مجرى الأحداث الذي خُطط له صهيونياً والى انقلاب جذري على مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي رُسم للمنطقة أمريكياً، نتج عنه نجاح استراتيجي في "7 أكتوبر" (طوفان الأقصى) وحرية مناورة أوسع وأشمل لحزب الله في دعمه وإسناده جبهة غزة، ما يؤكد بأن قراره بالوقوف الى جانب سوريا منذ اليوم الأول للصراع، لم يأت من عدم ولم يحصل عن فراغ بل جاء نتيجة رؤية استراتيجية ثاقبة واستشراف موضوعي للمستقبل…بعد أن تحالف ضدها كل من الولايات المتحدة الأميركية والعدو الصهيوني وبعض الدول الغربية والعربية، عبر استغلالهم متلازمة "الربيع العربي"، حين تظاهر بعض المواطنين السوريين للتعبير عن شكواهم فيما يتعلق بالفساد، وارتفاع نسبة البطالة وغياب الحريات السياسية، حيث استطاعوا من خلال هذه المطالب النفاذ إلى داخل المجتمع السوري في محاولة لشرذمته وتقسيمه عبر التضليل الإعلامي وزرع الفتن ونشر الفوضى بغية تحقيق أطماعهم عبرإخضاع سوريا…التي كانت ولازالت الهدف الأساس لهم، وحجر "الدومينو" ما قبل الأخير للوصول إلى المقاومة في لبنان وفلسطين، وذلك لأسباب عديدة أبرزها:
1.    الدور القيادي البارز الذي تصدرته سوريا منذ بدء الصراع العربي - الصهيوني، وازداد فعالية وحضوراً حين أصبحت "مركز ثقل" هذا الصراع، بعد خروج مصر من دائرته على أثر توقيعها لاتفاقية السلام المنفردة مع العدو الإسرائيلي في "كامب ديفيد" العام 1978. حيث رفضت سوريا الاتفاقات المنفردة مع العدو وتشبّثت بحقوق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال الصهيوني، ولم تنصاع للإملاءات الأميركية الداعية إلى إغلاق مكاتب المقاومة الفلسطينية، والى نزع سلاح "حزب الله" وإقفال ملفّ مزارع شبعا لسحب إحدى الذرائع الاستراتيجية للمقاومة، وأصرّت على أنّه ما يسمونه إرهاباً هو حق مشروع في مقاومة الاحتلال وبأنّ الإرهاب الصهيوني هو الإرهاب المنظّم للدولة.
2.    إقامتها لعلاقات دولية متينة مع الأنظمة ذات ايديولوجيات ثورية معادية للإمبريالية والغرب أو الدول التي تمتاز بمواقفها الداعمة للقضية الفلسطينية، أمثال: ليبيا (القذافي) - الجزائر- اليمن- روسيا الاتحادية - الصين- كوريا الشمالية- كوبا- فنزويلا - جنوب أفريقيا… البرازيل وايران.
3.    العلاقة المميزة التي تجمعها مع إيران هي في جذورها علاقة بين حليفين استراتيجيين، ربطتهما ببعض الحرب العراقية الإيرانية، عندما وقفت سوريا مع إيران ضد نظام صدام حسين في العراق، كما ربطتهما العداء المشترك للولايات المتحدة الأمريكية و‌العدو الصهيوني المحتل، اضافة إلى دعم ايران اللامحدود ووقوفها إلى جانب حليفتها عملانياً ولوجستياً في حربها ضد الارهاب الدولي الذي عَصَفَ بها، وقد تُوجّت هذه العلاقة مؤخراً بمذكرة تفاهم "للتعاون الاستراتيجي بين البلدين".
4.    العلاقة التاريخية العسكرية والأمنية والاقتصادية مع الاتحاد السوفياتي سابقاً وصولاً إلى روسيا الاتحادية اليوم، التي اجتهدت في سوريا على مدى عقود طويلة للاحتفاظ بمنفذ لها على البحر الأبيض المتوسط، بوابة أوروبا والبحر الأسود والخاصرة الرخوة للأمنين الأوروبي والروسي على حد سواء، مما وضع سوريا والنظام القائم في "عين الأعصار" الدولي، والصراع الدموي بغية تغيير شكل الحُكم وطبيعة النظام في سبيل الاستفادة من تسهيلات قد يقدمها النظام الجديد للدول الغربية أو في احتمالات الفوز بمعاهدات استراتيجية معه، على غرار الاتفاق الاسترتيجي الموقّع بين الدولتين الروسية والسورية يوم 26 أغسطس 2015، عنوةً عن باقي الدول…
5.    الاختلافات الأمريكية السورية في وجهات النظر قديمة جداً، لكنها أخذت منحى تصاعدياً حين اتهمتها واشنطن بدعم المقاومة العراقية وتسهيل عبور المقاومين إلى بلاد الرافدين، كما اتهمتها بتهريب أسلحة الدمار الشامل العراقية إلى أراضيها، اضافة إلى إيوائها الهاربين من رجال النظام السابق، هذا فضلاً عن اتهامها بتكديس السلاح الصاروخي الاستراتيجي وبحيازة أسلحة دمار شامل وأسلحة كيماوية وبيولوجية، ومن ثمّ اتهامها بقمع المتظاهرين مع بدء الأزمة السورية ...كل هذا ما كان إلا مقدمة لواحدة من الأهداف الأمريكية في السيطرة على حقول النفط في شرق البلاد ضمن محافظات دير الزور والحسكة، حيث برزت هذه المطامع من خلال السطو اليومي على نحو 12460 برميلاً من حقول الجبسة وحدها، و40 ألفاً أخرى من حقول رميلان في الحسكة، أكبر حقول النفط السورية، ليبلغ إجمالي قيمة النفط السوري المنهوب أمريكياً 111.9 مليار دولار منذ بدء الأزمة إلى يومنا هذا.
6.    المطامع التركية التاريخية في الشمال السوري، أكدتها مجريات الأحداث، فمع بدء الحرب في سورية احتلّت القوات التركية والميليشيات التّابعة لها عدّة مناطق من محافظات حلب، الرقة والحسكة شمال سورية، حيث بلغت مساحة الأراضي المحتلة 3900 كلم مربع.
7.     المطامع الصهيونية في سوريا، بدأت باحتلالها الجولان ثم ضمه إليها، فالمساهمة بزعزعة الاستقرار الداخلي بهدف اقامة "حزام أمني" بعمق 10 - 15 كلم ضمن الأراضي السورية على امتداد خط النار مع الجولان المحتل، بما يعني ذلك من تطبيع مع السكان المحليين وإنشاء وحدات عسكرية منهم خاضعة للكيان الصهيوني، لهذا يُنفذ سياسة معقدة في الجنوب السوري من خلال إقامة علاقة ودّ وتعاون مع مختلف أطراف الصراع، إذ أنّ العدو لا يرى في فصائل المعارضة ولا في الجماعات المتشددة التابعة لتنظيمي داعش والقاعدة تهديداً لأمنه، نظراً لمحاربة هذه المجموعات الدولة السورية، وتركيزهم على زعزعة استقرار الدول المجاورة للكيان الصهيوني كالأردن ومصر ولبنان، دون أن تبدي أي اهتمام باستهداف هذا الكيان، ما يحمل علامات استفهام كثيرة لطرح العديد من التساؤلات؟
أمّا مكمن الجواب هو في العدوان الدموي والمشترك في الزمان والمكان بين العدو الصهيوني والجماعات الارهابية في إدلب على مدينة حلب يوم الجمعة في 29 مارس 2024، ليؤكد من جديد ارتباط هذه الفصائل والجماعات ب "العدو الصهيوني"، الذي كثّف ضرباته منذ بدء الأزمة، مستهدفاً القوات العربية السورية وحزب الله والخبراء الإيرانيين، ومرد ذلك إلى اتهام العدو للجمهورية العربية السورية بتمرير السلاح إلى المقاومين في لبنان وفلسطين المحتلة بما فيهم حركة حماس…وفي أساس الأمر هو الظهور المفاجئ لأسلحة متطورة واستراتيجية مع "المقاومة الاسلامية" خلال حرب تموز 2006 إثناء مواجهتها للعدوان الصهيوني على لبنان، بَيّنَ مدى العمق الاستراتيجي الذي تمثله سوريا للمقاومة، ومدى جديّة القيادة السورية وحرصها في كل مواجهة مع العدو على إبراز التفوق العسكري للمقاومة إن في لبنان أو فلسطين المحتلة وتحديدا غزة، بالرغم من خلافاتها مع حركة حماس على أثر اندلاع الأزمة في سوريا، فإنها لم تبخل أو تمنع عنها الدعم اللوجيستي الآتي عبر حليفها الإيراني، فكانت الممر الآمن الذي من خلاله تم العبور إلى "7 أكتوبر" (طوفان الأقصى)…من هنا بات يُعرف السبب المباشر للمؤامرة التي دُبّرت لسوريا، والكمّ الهائل من العنف والتحريض ضد النظام القائم…لأنّه متى ما انهارت "الشام" ضعُفت المقاومة في لبنان وانهارت معها المقاومة في فلسطين، وسقطت المنطقة العربية في صراعات بين مختلف القوى الإقليمية والدولية للاستئثار بأكبر نصيب من المكاسب قد تُسفر عن متغيرات في المشهد الجيوسياسي للمنطقة، وصولاً إلى المُحّصلة الأساس وهي تصفية القضية الفلسطينية من بوابة "دمشق".

المصدر : جنوبيات