بأقلامهم >بأقلامهم
بين الوقائع والشكوك .. لماذا أُغتيل "ابراهيم رئيسي"؟
بين الوقائع والشكوك .. لماذا أُغتيل "ابراهيم رئيسي"؟ ‎الأحد 26 05 2024 12:05 العميد محمد الحسيني
بين الوقائع والشكوك .. لماذا أُغتيل "ابراهيم رئيسي"؟

جنوبيات

 

في واحدة من أبرز الصراعات التاريخية في منطقة القوقاز وأشدها تعقيداً فيما بين الدول، حَافظَ أقليم "ناغورني قره باغ" (أرتساخ بالأرمنية) لمدة عقود طويلة، وما زال، على مسرحه في الساحة الدولية إن من حيث محاولات السيطرة أو في التنافس على النفوذ بين مربع القوميات الإثنية: الروسية والأرمنية والتركية والإيرانية، لتتسلل فيما بينهم أواخر القرن الماضي على خط الأزمة الدول الغربية بمن فيهم الكيان الصهيوني، وذلك لما يُشكله هذا الإقليم من مفترق رئيسي للطرق بين أوروبا الشرقية وآسيا الغربية، وبين روسيا التاريخية بدءاً من الشمال عبوراً الى جنوب دول القوقاز متقاطعاً مع طريق الحرير عبر بلاد فارس قديما أي الجمهورية الاسلامية الإيرانية حالياً. لذا ليست بالمفاجأة الكبرى أن تشتعل الحرب بين أذربيجان من جهة وأرمينيا من جهة أخرى عقب استقلالهما عن الاتحاد السوفييتي في العام 1991، وهي حرب أقرب ما تكون الى التطهير العرقي، وذلك في جولتين الأولى استمرت ثلاث سنوات والثانية في العام 2020 استمرت مدة شهر واحد، سيطرت أذربيجان في ختامها بشكل كامل على الجزء الغربي من الحدود مع إيران منتزعة إياها من جمهورية "أرتساخ" المعلنة ذاتياً، حيث دعمت كل من تركيا والكيان الصهيوني جمهورية أذربيجان في حين استمرت روسيا الاتحادية بتسليح الجمهورية الأرمنية، وساندتها الجمهورية الإسلامية الايرانية ما تسبب بفتور في العلاقات مع أذربيجان وارتفاع حاد في منسوب التوتر، وتعود الأسباب الإيرانية في هذا إلى:

1. القلق الإيراني التاريخي من مطالبة أذربيجان المحتملة بمحافظة أذربيجان الشرقية، وهي إحدى محافظات إيران الواحدة والثلاثين كجزء من "أذربيجان الكبرى". بعد ان سبق وتأسست دولة انفصالية أذربيجانية مدعومة من السوفييت في هذه المحافظة عام 1945، لكن سرعان ما تم استعادتها من قبل القوات الإيرانية.
2. خشية الجمهورية الإسلامية من حدوث توغل أذربيجاني في "سيونيك" جنوب "قره باغ"، لأن مثل هذا الإجراء قد يهدد حدود إيران البرية مع أرمينيا، في وقت تنظر طهران إلى ارمينيا كممر استراتيجي يربطها مع حليفتها روسيا وهذا ما لا يمكن السماح به تحت أي ظرف إذ تسبب بإغلاقه.
3. المخطط التركي- الأذربيجاني لإنشاء ممر عبر الاراضي الأرمنية وهو ممر "زانغزور" الذي يربط أذربيجان بإقليم "نخشيفان" جنوب أرمينيا على الحدود مع ايران وصولاً إلى انقرة.
4. انزعاج طهران من التقارب بين أذربيجان والكيان الصهيوني وتصريحات "باكو" المريبة حول نواياها بتقديم الدعم لتل أبيب في حال قررت مهاجمة ايران. والشكوك الإيرانية في أن تكون الطائرات المسيرة التي نفذت هجوما على مراكز حيوية في مدينة أصفهان الإيرانية، الشهر الماضي قد أقلعت من الأراضي الأذربيجانية.
من هنا جاء استغلال الدول الغربية لهذه الأسباب وعلى الأخص "واشنطن" و"باريس" و"تل ابيب"، بغية الدفع باتجاه حرب جديدة في القوقاز بين البلدين الجارين، حين أججت نار الصدام بين "طهران" و"باكو"، على خلفية حادثة مقتل مسؤول أمني في سفارة أذربيجان في طهران، سبقها انتقادات إيرانية لأذربيجان بسبب افتتاحها سفارة للعدو الصهيوني، وصولاً إلى طرد متبادل لديبلوسيين من كلا الدولتين، كل ذلك إذا ما أضيف إليه التدريبات العسكرية للبلدين التي أجريت على الحدود المتقابلة بينهما، ما ساهم في زيادة التوتر إلى الحد الذي ظن معه العالم بأن حربًا بينهما على وشك الإندلاع، وهو ما كانت كل من "تل أبيب" و"واشنطن" وعواصم أوروبية واقليمية عدة تروج له وتسعى إلى تغذيته وتنتظر حدوثه، كل هذا بسبب الدور الإيراني- الروسي في تشكيلهما عائقاً وسداً بوجه مشاريع الهيمنة الغربية على المنطقة والعالم، مع ما يحمله المشروع الغربي من صدام بين ايران وأذربيجان، الى محاولة توريط وزج تركيا في هذا الصراع بمواجهة ايران بسبب حتمية تدخل "أنقرة" لصالح "باكو".
من هذا المنطلق ومن باب حرص القيادة الايرانية على أفضل العلاقات مع دول الجوار وإدراكاً منها للخطر وللدور التخريبي الذي تقوم به الدول الغربية في منطقة القوقاز، أظهرت القيادة الإيرانية حكمة في التعاطي مع كل هذه التعقيدات، من ضمن خطتها الاستراتيجية الجديدة بالإنفتاح على جيرانها، فعملت على احتواء الخلاف وخفض التصعيد مع أذربيجان، ترجمته باستضافة دبلوماسيين من كل من أذربيجان وأرمينيا لحضور مؤتمر حوار يهدف إلى حل الخلافات بينهما، بعد انتهاك كلا الطرفين لاتفاقية وقف إطلاق النار في "قره باغ" إثر اشتباكات سبتمبر 2023. سبقتها زيارة وزير الخارجية الإيراني الراحل "أمير عبد اللهيان" إلى العاصمة "باكو" ولقاؤه الرئيس "الهام علييف" في العام 2021 بعد سبع سنوات من القطيعة. هذه الزيارة شكلت منعطفًا تاريخيًا في العلاقات بين البلدين، استكملت باللقاء بين الرئيس الإيراني الراحل "ابراهيم رئيسي" والرئيس الأذربيجاني "إلهام علييف" في العاصمة الاوزبكية "طشقند" في نوفمبر 2023، حيث شكل مرحلة جديدة من التعاون الاستراتيجي بين البلدين وأحدث قفزة تاريخية في العلاقات الثنائية التي انعكست على التعاون بينهما، وتناول اللقاء ثلاثة محاور:
1. ممر "زانغزور" الذي سيربط باكو بإقليم "ناختشيفان"، حيث اقترحت طهران أن يمر عبر أراضيها بعد أن رفضت أرمينيا مروره عبرها وذلك بضغط غربي، في وقت بات اللوبي الأرميني في الخارج يمتلك تأثيرا واسعا على الحكومة الأرمينية برئاسة "باشينيان" الذي أظهر بدوافع غربية مواقف عدائية تجاه موسكو تمهيدا للإنسلاخ عن التحالف معها والإلتحاق بالمعسكر الغربي.
2. السدود على نهر آراس، وذلك لأجل الاستفادة المشتركة من هذا النهر الذي يمتد بين إيران وأذربيجان في حدود مشتركة بطول 450 كيلومتر، وبعد ان تم تشغيل سد "آراس" في الماضي وسد "خدا آفرين" منذ سنوات، اتفق الطرفان على افتتاح مشترك لسد "قيز قلعة سي" الذي تم بناؤه مؤخراً على هذا النهر.
3. الصراع الأذربيجاني- الأرميني وضرورة المحافظة على الاستقرار في المنطقة والسعي الى وقف دائم لإطلاق النار بين الطرفين.
أزعج التقارب الإيراني - الاذربيجاني، دول الغرب والكيان الصهيوني، متزامناً مع اتهام الخارجية الأذربيجانية سفراء كل من الولايات المتحدة وفرنسا والمانيا بتدخلهم في الشأن الداخلي الأذربيجاني من خلال تحويلات مالية لمنظمات غير حكومية. إضافة إلى عدم ارتياح حكومة أذربيجان من محاولات "واشنطن" و"باريس" التسلل إلى أرمينيا عبر التواجد العسكري فيها إن من خلال المناورات المشتركة بين الجيوش أو من خلال تزويدها بالسلاح. هذا التقارب الاستراتيجي الذي حصل خلافا لمخططات الدول المتضررة منه، استكمله الرئيس الإيراني الراحل "إبراهيم رئيسي" إلى يومه الأخير في هذه الدنيا حينما سقطت طوافته من بين 3 طوافات بظروف لا زالت غامضة، وذلك أثناء عودته من افتتاح سد "قيز قلعة سي" على نهر آراس عند الحدود بين الدولتين الإيرانية والأذربيجانية وبحضور الرئيس "علييف".
فهل تسببت سوء الأحوال الجوية بالحادث المأساوي؟ إن كان كذلك فهناك مسؤولية تقع على الفريق الذي خطط للرحلة ورسم مسارها ذهاباً وإياباً في ظل هكذا طقس…أم هو عطل فني طارئ ما تسبب في سقوطها السريع؟…أم هو نتيجة لعمل دُبرّ في ليل؟ وهو أكثر ما تميل اليه الأنفس، وحتى يثبت العكس لا بد من الاضاءه على هذا الاحتمال الأكثر ترجيحاً، للأسباب التالية:
1. النشاط الفعّال للموساد الصهيوني داخل جمهورية أذربيجان، والهدف واحد جمع ما يتوفر من معلومات حول الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فهل أقدم هذا الجهاز بالتعاون مع أجهزة استخباراتية أخرى بالتشويش على طوافة الرئاسة؟
2. العداء الأمريكي خاصة والغربي عامة للجمهورية الأسلامية الإيرانية، وأبرزأسبابه هو موقفها الداعم للمقاومة الفلسطينية، حيث لم تتورع إيران عن قصفها للكيان حيت دعت الحاجة. فهل أغتيل "رئيسي" ومن معه في سبيل القضية الفلسطينية؟
3. وسيلة الاغتيال التي تدخل ضمن بروتوكولات الحكومات الصهيونية المتعاقبة ضد المعارضين للكيان بمن فيهم المسؤولين الإيرانيين البارزين، فهل وقعّت حكومة الكيان على لائحة "الإعدام نيلي" بنسختها الإيرانية؟
4. أول من بادر إلى إعلان خبر تحطم الطوافة ومقتل من فيها هو الإعلام الرسمي الصهيوني مع نفي مباشر وفوري لعلاقة الكيان بالحادثة، ما يحمل عدة علامات الاستفهام؟
5. استراتيجية التصالح والانفتاح التي اعتمدها "رئيسي" مع الدول المجاورة، أزعجت الدول الغربية وأربكت الكيان الغاصب في ظل الاستماتة الصهيونية للتطبيع مع المملكة العربية السعودية، فهل يُسرّع الحادث في هذا الأمر؟
6. أحد المرشحين الاوائل لخلافة السيد آية الله الخامنئي، ما يضعه في دائرة الخطر الكبير؟
هوى الرئيس الايراني "ابراهيم رئيسي" ومن معه بطوافته، لكنهم ارتقوا شهداء في محاولة لإرساء السلام الدائم والشامل مع دول الجوار الاسلامية منها والعربية، بعد أن قهر بدبلوماسيته الحكيمة كل من تآمر بطريقة أو بأخرى على الإيقاع بين إيران وجيرانها سواء أذربيجان أو تركيا او باكستان او حتى السعودية…وإنّ دولة عريقة مثل الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي اختزنت الحضارات كافة وعلى امتداد آلاف السنين، بما فيهم الحضارة الإسلامية وما غرزته من عقيدة صلبة متجذرة في المجتمع الإيراني، بأن كُرّس ذلك رسمياً في المادة الأولى من الدستور في نصٍ هو من أقوى النصوص تَبصِرة وأنفعه تَذكِرة: "إنّ صاحب الدولة هو الإمام محمد بن الحسن المهدي المنتظر"…هكذا دولة لا يدخلها اليأس ولا يحبط عزيمتها رحيل الأشخاص مهما علا شأنهم، بل تزداد قوة ويقيناً…

المصدر : جنوبيات