مقالات مختارة >مقالات مختارة
الغزّاويات في أكبر سجن بشريّ.. ضحايا العدوان والوصاية الذكوريّة!
الغزّاويات في أكبر سجن بشريّ.. ضحايا العدوان والوصاية الذكوريّة! ‎السبت 28 10 2023 18:53
الغزّاويات في أكبر سجن بشريّ.. ضحايا العدوان والوصاية الذكوريّة!

نور حطيط

عملًا بحكمة أناضوليّة قديمة تقول: “إنَّ على الحاكم أن يبني الحبس قبل القصر”، استطاع العثمانيّون بناء أوّل معتقل في قمم مرتفعة، لكنّهم غفلوا عن “العراء المستلقي” إذا ما استعرنا العبارة من كاتب القفص “إبراهيم الكوني”، الذي يمتدّ إلى خارج المعتقلات ويخلق من عيون المسجونين طقسًا مع الضوء والعراء والمدى. لذلك قامت “إسرائيل” ببناء أكبر زنزانة، مدجّجة بالجدران، لتصبح غزّة: مدينة الجدران!

انتبهَ المحتلّون الإسرائيليّون إلى أنَّ العراء نشيد للفلّاحين الفلسطينيّين، فقرّروا اختراع الأسلاك الشائكة والأسوار العالية، وسجنوا أكبر قدر من الأجساد المُتوحّشة للحياة. وإذا ما عدنا إلى الفيلسوف الإيطاليّ “جورجيو أغمبن”، أو ذهبنا إلى أرشيف المصطلحات اليونانيّة بالتحديد التي عمل بها، فإنَّ أهالي غزّة يفتقدون إلى الحياة، أيّ الـZoë (تلك التي تتساوى مع النباتات والحيوانات)، والتي تختلف عن العيش أيّ الـbios (أيّ الحياة المدنيّة والسياسيّة).

وإذا كانَ توصيف وزير دفاع العدو “يوآف غالانت” بأنَّ أهالي غزة: حيوانات، فهل لنا أن نسأل عن الحياة العارية أو الـZoë بحسب عبارة أغمبن التي يشترك بها أبناء غزة مع الحيوانات؟ أو النساء تحديدًا لأنهنَّ الأكثر تأثّرًا؟

نساء غزّة محجوبات عن الحياة

يقول الفيسلوف “جان بول سارتر”: “إنَّ المرء يشعرُ بأنَّ الزمن يجري، وإنَّ كلّ لحظة تؤدّي إلى لحظة أخرى، وهذه إلى ثالثة وهكذا دواليك، وإنًّ كلّ لحظة تتلاشى، ولا جدوى من محاولة إمساكها..”، وهذا توصيف دقيق لوصف حياة الفلسطينيّات، تحديدًا الغزّاويّات في أكبر سجن على الأرض.

وإذا ما عُدنا إلى ما قبل تاريخ “السبت الأسود” بحسب توصيف الإسرائيليّين، ونظرنا خلف هذا اليوم، إلى حياة النساء الفلسطينيّات، نجد أنَّ العنف المُنظّم الأبويّ المتطرّف تزامنَ مع نهوض الصحوة الإسلاميّة الوهّابيّة، وقبلها مع الاستعمار البريطانيّ والإسرائيليّ، والذي لا يزال إلى يومنا هذا.

عندَ الحديث عن نساء “غزّة”، يعني أنّنا نتحدّث عن استعداد الرجال للتنفيس عن إحباطاتهم الاقتصاديّة والسياسيّة وغيرها، التي تسبب بها الحصار الإسرائيليّ منذُ 16 عامًا، عبر تعنيف النساء وضربهنَّ وقتلهنّ، كونهنّ الحلقة الأضعف دائمًا. وعادةً ما تتعمّد الأجهزة الأمنيّة والشرطة إلى إغلاق الملفّات المرتبطة بالعنف الأسريّ وقتل النساء الدارج، والذي إذا ما تكلّمنا عنه، يجيء الردّ: “إنّها حالات فرديّة وحالات شاذّة عن المجتمع الفلسطينيّ الغزّاويّ”.

سجون صغيرة في سجن كبير

تعيش النساء في غزّة تحت نظام الوصاية المُطلقة للأب والزوج، لحماية “شرف العائلة والعشيرة” التي تنتمي إليها، وإذا ما حاولنّ “التمردّ” على حدّ تعبير الرجال، فإنهنّ يتعرضنّ للقتل أو الإخفاء القسريّ، كما هو حال “صفاء شكشك” التي قُتلت في العام 2020 خنقًا على يدّ زوجها.

وكذلك “استبرق” التي تعرّضت للضرب المبرّح حتّى الموت من قبل زوجها العام 2021، والشاعرة الفلسطينيّة وسام وأختها فاطمة الطويل اللتين اختفتا في 6 كانون الثاني من العام 2023، بعدَ أن أجبرتهما الشرطة على العودة من “بيت الأمان الحكوميّ” إلى منزل أبويهما المعنّف “عماد العاصي”، على الرغم من كلّ الدلائل التي تشير إلى التنكيل والتعذيب بحقّهما.

ولا ننسى حينَ أصدر المجلس الأعلى للقضاء الشرعيّ (هيئة تديرها سلطات حماس)، في العام 2021، تعميمًا، يسمح لأصحاب الوصاية الرجال الفلسطينيّين في قطاع غزّة، بمنع وتقييد سفر النساء غير المتزوجات، وجاء التعديل بعدَ ضجّة وردّة فعل نسائيّة في غزّة، بأنّه يسمح لوليّ الأمر عبر المحكمة بمنع ابنته وزوجته من السفر من خلال “معبر رفح”. وهذا ما أفضى إلى سجن النساء بين درفتيّ باب موحشتين: الأولى، استعماريّة متعمّدة، والثانية شيّدتها الذكوريّة والسلطويّة المُسيطرة على أجساد النساء وحركتهنَّ وفضاءاتهنَّ.

ونحنُ هنا في موضوع الحديث عن سجون صغيرة في داخل سجن كبير، عن جدران بُنيت بين النسوة وخارجهنّ، بين النساء وأجسادهنَّ، بين النساء ووجوههنّ، ونحن هنا في موضوع القول بعنف مزدوج يطالهنّ. تقول الباحثة النسويّة الباكستانيّة روبينا سيغول Rubina Saigol في هذا السياق، إنّه “كلّما ازداد الخطر الخارجيّ للمجتمعات المُستَعمرة، ازداد معه التضييق الداخليّ من قبل الحركات المناهضة للاستعمار، خصوصاً وأنَّ النساء بأجسادهنَّ يمثّلن الأرض والوطن الضائع”.

أجساد معذّبة

إذا ما عرجنا قليلًا إلى “فوكو” فيلسوف تأريخ السجون، وقاربنا فلسفته التفكيكيّة مع واقع النساء في غزّة، فإنّنا سنرى الجسدين: الجسد المُعذّب من الاستعمار والجسد المُنضبط الذي تخلقه القوى وهيكليّات علاقات القوّة بين السلطة والأفراد وبين الجماعات نفسها، خصوصاً عندَ الشعور “بالذعر القوميّ”.

جسد النساء في غزّة لم يكفّ عن كونه معذّب، ومنضبط، ومُهندَس اجتماعيًّا بما يتلائم والحالة السياسيّة والمرحلة النضاليّة، وهنا لا يمكننا التغاضي عن الرموز والشعارات التي يتداولها السياسيّون والمناهضون للاستعمار في خطاباتهم عن تحرير الأرض. إذ تتكثّف في هذه الخطابات الرغبة الذكوريّة في امتلاك الأرض والدفاع عنها وحمايتها، وهذا ينطبق تمامًا على أجساد النساء.

من جهة ثانية، ومنذُ تاريخ 8 تشرين الأوّل الجاري، أيّ مع بدء الإبادة الجماعيّة، تظهر سياسة إسرائيل المحتلّة المستعمرة بوضوح، حيثُ الاستيلاء الممنهج على الأراضي الفلسطينيّة، يصاحبه الاستيلاء على الأجساد، وتجريدها من إنسانيّتها إلى حدّ قول سياسييّ الكيان: “إنّها حرب بينَ الهمجيّة والحضارة”، بقصد التقليل من قيمة الذات الفلسطينيّة.

تستخدم إسرائيل كجميع القوى المحتلّة والمستعمرة المتشابهة، العنف الكولونياليّ الجنسيّ وغيره، لتشرّع انتهاك  أجساد الفلسطينات/يين، فتقتل وتعذّب وتشرّد وتغتصب. وفي حالة الإبادة التي تقوم بها دولة الاحتلال إسرائيل اليوم، تظهر بوضوح الأعباء المُضاعفة والعنف المضاعف على النساء الغزّاويات، خصوصاً  مع الأدوار الثنائيّة المُكرّسة، كأمّهات وزوجات. لتتحوّل المرأة، المعيلة الوحيدة لأسرتها، أو الضحيّة الأولى في الحرب بسبب إعالتها لأطفالها وكبار السنّ، وهذا ما أظهرته الإحصائيّات والأرقام.

ومع النزوح القسريّ للعائلات الفلسطينية من الشمال إلى الجنوب اليوم، زادت الانتهاكات والأعباء على النساء، إذ إنهنَّ يتعرضنَ لخطر الولادة المبكرة كلّ لحظة، ولفقدان الإمدادات والمستلزمات الخاصّة بالصحّة الجنسيّة، ما أدّى إلى لجوء بعضهنَّ إلى استعمال حبوب منع الحمل، لتأجيل دورتهنَّ الشهريّة.

يقول الكاتب الشهير إدواردو غاليانو: “لستُ مؤرّخًا، أنا كاتب يجب أن يساهم في إنقاذ الذاكرة المخطوفة”، وأعطفُ على قوله بالقول: “ما دمنا الآن نصارع محونا من الذاكرة المخطوفة، لا بدّ من حفظ وأرشفة ما لا يستحّق الضياع: حياة النساء المُستعمرات”.

الغزّاويات في أكبر سجن بشريّ.. ضحايا العدوان والوصاية الذكوريّة!
الغزّاويات في أكبر سجن بشريّ.. ضحايا العدوان والوصاية الذكوريّة!
الغزّاويات في أكبر سجن بشريّ.. ضحايا العدوان والوصاية الذكوريّة!
المصدر : مناطق نت