بأقلامهم >بأقلامهم
"لا حياة لمن تنادي"!
"لا حياة لمن تنادي"! ‎الجمعة 3 11 2023 08:28 القاضي م جمال الحلو
"لا حياة لمن تنادي"!

جنوبيات

يُحكى أنّ ﺃﻋﺮﺍبيًّا تعرّض ﻟﻠﺴّﺮﻗﺔ ﻣﻦ قبل ﻗﻄّﺎﻉ ﺍﻟﻄّﺮﻕ، ﻓﻠﺠﺄ إﻟﻰ ﺍﻟﻤﺄﻣﻮﻥ ﻟﻴﺸﻜﻮ له ﺿﻴﺎﻉ ﻣﺎﻟﻪ، فلم ﻳُﺆﺫﻥ ﻟﻪ ﺑﺎﻟﺪّﺧﻮﻝ ﻋﻠﻴﻪ ﻟﻌﺎﻡ ﻛﺎﻣﻞ.

إزاء ذلك خطرﺕ بباله ﺣﻴﻠﺔ من أجل مقابلة الخليفة. 
فحضر ﺇﻟﻰ ﺍلمسجد في يوم ﺟﻤﻌﺔ، ووﻗﻒ بعد انتهاء الخطبة والصّلاة، ﻭﻧﺎﺩﻯ ﺑﺎﻟﻤﺼﻠّﻴﻦ ﻗﺎئلًا: 
"ﻳﺎ ﺃﻫﻞ ﺑﻐﺪﺍﺩ ﺍﺷﻬﺪﻭﺍ ﻋﻠﻲّ ﺑﻤﺎ سأﻗﻮﻝ.
إﻥّ ﻟﻲ ﻣﺎ ﻟﻴﺲ ﻟﻠﻪ، ﻭﻋﻨﺪﻱ ﻣﺎ ﻟﻴﺲ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﻠﻪ. ﻣﻌﻲ ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﺨﻠﻘﻪ ﺍﻟﻠﻪ، ﻭﺃﺣﺐّ ﺍﻟﻔﺘﻨﺔ، وأكره ﺍﻟﺤﻖّ، ﻭﺃﺷﻬﺪ ﺑﻤﺎ ﻟﻢ ﺃﺭَ، ﻭﺃﺻﻠّﻲ ﺑﻐﻴﺮ ﻭﺿﻮﺀ".
اﺳﺘﻌﻈﻢ ﺑﻌﺾ ﺭﺟﺎﻝ ﺍﻟﻤﺄﻣﻮﻥ قول الأعرابيّ، ﻓﺤﻤﻠﻮه إﻟﻰ ﺍﻟﺨﻠﻴﻔﺔ، ﻓﻘﺎﻝ ﺍﻟﻤﺄﻣﻮﻥ ﻟﻪ مستفسرًا: 
ﻣﺎ ﺍﻟﺬﻱ ﺑﻠﻐﻨﻲ ﻋﻨﻚ؟
ﻗﺎﻝ: ﺻﺤﻴﺢ. 
فردّ المأمون:
 ﻭﻣﺎ ﺣﻤﻠﻚ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ؟
 أجاب الأعرابيّ:
 ﻗُﻄﻊ ﻋﻠﻲّ، ﻭﺳُﻠﺐ ﻣﺎﻟﻲ، ﻭﻟﻲ ﺑﺒﺎﺑﻚ ﺳﻨﺔ، وﻟﻢ ﻳُﺆﺫﻥ ﻟﻲ بلقائك، ﻓﻔﻌﻠﺖ ﻣﺎ ﺳﻤﻌﺖ لأﺭﺍﻙ ﻭﺃﺑﻠﻐﻚ ﻟﺘﺮﺩّ عليّ ﻣﺎﻟﻲ المسروق منّي قهرًا. 
وهنا قال ﺍﻟﻤﺄﻣﻮﻥ:
 ﻟﻚ ﺫﻟﻚ، ﺇﻥ ﻓﺴّﺮﺕ ﻣﺎ قلته في المسجد.
ابتسم الأعرابيّ وقال:
 ﻧﻌﻢ، سأجيبك أيّها الخليفة الكريم. 
أمّا ﻗﻮﻟﻲ: "ﺇﻥّ ﻟﻲ ﻣﺎ ﻟﻴﺲ ﻟﻠﻪ"، ﻓﻠﻲ ﺯﻭﺟﺔ ﻭأولاد ﻭﻟﻴﺲ ﺫﻟﻚ ﻟﻠﻪ.
وﻗﻮﻟﻲ: "ﻋﻨﺪﻱ ﻣﺎ ﻟﻴﺲ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﻠﻪ"، ﻓﻌﻨﺪﻱ نفس أمّارة بالسّوء ﻭﺍﻟﻠﻪ ﺑﺮﻱﺀ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ.
أمّا ﻗﻮﻟﻲ: "ﻣﻌﻲ ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﺨﻠﻘﻪ ﺍﻟﻠﻪ"، ﻓﺄﻧﺎ ﺃﺣﻔﻆ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻭﻫﻮ ﻏﻴﺮ ﻣﺨﻠﻮﻕ.
وﻗﻮﻟﻲ: "ﺃﺣﺐّ ﺍﻟﻔﺘﻨﺔ"، ﻓﺈﻧّﻲ ﺃﺣﺐّ ﺍﻟﻤﺎﻝ ﻭﺍﻟﻮﻟﺪ. ﻟﻘﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ‏(ﺇﻧّﻤﺎ ﺃﻣﻮﺍﻟﻜﻢ ﻭﺃﻭﻻﺩﻛﻢ ﻓﺘﻨﺔ‏).
وﻗﻮﻟﻲ: "ﺃﻛﺮه ﺍﻟﺤﻖّ"، ﻓﺄﻧﺎ ﺃﻛﺮه ﺍﻟﻤﻮﺕ ﻭﻫﻮ ﺣﻖّ.
وﻗﻮﻟﻲ: "ﺃﺷﻬﺪ ﺑﻤﺎ ﻟﻢ ﺃﺭَ"، ﻓﺈﻧّﻲ ﺃﺷﻬﺪ أﻥّ ﻣﺤﻤّﺪًا ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ، ﻭأﻧﺎ ﻟﻢ ﺃﺭه.
أمّا ﻗﻮﻟﻲ: ﺃﺻﻠّﻲ ﺑﻐﻴﺮ ﻭﺿﻮﺀ"، ﻓﺈﻧّﻲ ﺃﺻﻠّﻲ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨﺒّﻲ ﺑﻐﻴﺮ ﻭﺿﻮﺀ".
اﺳﺘﺤﺴﻦ ﺍﻟﻤﺄﻣﻮﻥ ﺗﻔﺴﻴﺮ الأعرابيّ واندهش لحكمته وحنكته ﻭﻋﻮّﺿﻪ ﻋﻦ ﻣﺎﻟﻪ ﺍﻟﻤﺴﺮﻭﻕ أضعافًا مضاعفة. 

 أمّا في لبناننا الحزين، فإنّ شعبنا المقهور والمغلوب على أمره قد سُرق رزقه، وسُلب ماله، وهُتك ستره، ودُمّرت حياته ليس من قبل قطّاع الطّرق، بل من قبل مَن أولاهم النّظام حماية المال العامّ. 
وعليه،
 "قد أسمعت لو ناديت حيًّا، لكن لا حياة لمن تنادي".

المصدر : جنوبيات