يحطّ أبي، صبحي سعيد قاسم جابر، في الثلاثين من أيّار كلّ عام، منذ العام 2002، عام رحيله، وفي كلّ يوم من أيام هذه السنين المتوالية، على عتبة الوجع والحزن، وجع الفراق وحزن الرحيل من دون أيّ تنبيه أو إشارات، بعدما خانه القلب الكبير بعطائه الإنساني، الصغير على احتمال انسداد الشرايين…
في كلّ نسمة يعبر فيها اسمه وذكراه، أو يسمو وجهه على سدة منام، ثمّة غمامة كبيرة تلتصق بالروح وتحتاج إلى وقت كبير كي تتبدّد..
اليوم، وبعد 21 سنة على رحيله بتاريخ 30 أيار 2002 عن 75 عاماً، أعيد نشر نصّ أظن ينير شمعة ولو ضئيلة في ذكراه التي لا تغيب..

موقظ الساحة

صباح الخير يا أبي، يا موقظ «السّهلة» (ساحة النبطية) من صمتها ومن دكنها. يا سابحاً في تواتر أيامها وأعوامها، وقد أبصرت تحت فيء جذعها، ثم نشأت...
لا أدري لمَ لمْ تخامرني الحشرية يوماً، أن أسألك من حمّلك مفاتيح مساربها وأورثك هذا الصلب؟ من أعطاك هذا الدفع وبعثك مع أترابك الراحلين جندياً تلو جندي، شرايين لأوصالها؟
ولا أفقه يا أبي، لماذا رحتم تتسربون سريعاً من غير آخ أو شكوى، هادئين نحو المنايا، صامتين مثل أيامكم وأحلامكم، كاظمين أوجاعكم وهذه المراحل العميقة من ناصع بساطتكم؟
ثمة من يعترف اليوم أنك ورفاقك السائقين أرسيتم منذ أواخر الأربعينيات، ومطلع الخمسينيات النّبض في النبطية المدينة، شكّلتم نسيجها، ولغتها مع جاراتها القرى والمدن، والعاصمة بيروت، مع الشام والأردن وفلسطين. وأنكم رسمتم دروبها وحكاياتها، ونثرتم عليها حبكم وأخبارها الجميلة دلالات. وأنكم أنتم «البسطاء المساكين» بفطرتكم، لم تعرفوا المغالاة في التنافس، ولم يتغلغل الحقد لحظة إلى ألبابكم. وها أنكم تصعدون بالمدينة وبمهنتكم، حرفتكم، نحو زخم العطاء وأوجه، حتى غدوتم قبيل لعنة الحرب الطاحنة للأمان والمبادئ أواسط السبعينيات، ثلة يسترشد بتماسكها.
أجل يا أبي، يخبرني الرواة أنكم حويتم المدينة في «سهلتها» المتواضعة، سرّحتم جدائل أيامها وأحلامها، وحدوتم على مزاميرها كلما كبّر «الفقيه» في آذان الفجر. ويقولون: إنّ السهاد لم يكن ليذبل أجفانكم قبل ركون الساهرين إلى مراقد غفوتهم بعد طول عناء. والمدينة أمّكم، لم تستفق يوماً إلاّ على وشوشاتكم ومزاحكم ودخان لفائفكم المتسرب إلى أحيائها وبيوتها مع «سعالكم» حتى يوقظ المدثرين تحت غلبة النوم معلناً استفاقة اليوم.

أبي وجذوره الممتدّة في ساحة النبطية

ولد أبي وعاش مجمل عمره في وسط سوق النبطية  وأقول في وسط السوق، لأنّه أبصر النور وترعرع هناك، في أسفل نزلة «الديماسي» أي عند الكتف الشّرقي للبيدر، الذي كان يطل عليه بيت جدّي سعيد قاسم جابر، وشقيقه توفيق، وقد ورثا العقار كلّه عن أبيهما أو اشتريا متمّم العقار لاحقاً، وهو العقار الملاصق لساحة النبطية، ساحة السوق و«الشوفرية».
عاش جدّي سعيد مع شقيقه توفيق الذي كان يملك رتلاً من سيّارات الأجرة «تكسي» ويشغلها على خطوط صيدا وبيروت والعديد من المناطق اللبنانية، وكان من الطبيعيّ أنْ يرث أبي صبحي سعيد جابر (1927- 30 أيار 2002) وشقيقاه، الأكبر من الصبيان جميل  (1922- 14 أيار 1975) والأصغر أحمد (1938- 15 أيار 1988)، حرفة القيادة العموميّة «الشوفرة»، وهكذا كان، بعدما عاشوا جميعهم في أجوائها وظلالها…
اشتغل عمّي الأكبر على خطّ الشام ومثله الأصغر، أمّا أبي فعلى خطّي صيدا وبيروت، وعلى خطّ فلسطين في بداية عمله، إذ ظلّ ينقل وبـ«التهريب» في أحيان كثيرة بضائع وتبغاً من وإلى فلسطين، لذلك لم يعرف أبي وشقيقاه مهنة غير قيادة السيارات، إلى أن توفّي عمّي جميل «أبو فؤاد» في العام 1975، في الشام- سوريا عن 53 عاماً، على أثر ذبحة صدرية حادة؛ فيما سافر عمي أحمد «أبو علي» وعائلته إلى الولايات المتحدة الأميركية بعدما بدأت النبطية تتعرض للقصف الإسرائيلي، اليومي، ومن هناك عاد في صندوق خشبي وهو لم يتجاوز الخمسين..
أمّا أبي فلم يغادر النبطية ولم تغادره، حتى في أحلك الظروف، كانت روحه معلقة في «السوق» التي يذهب إليها عند آذان الفجر، ولا يعود منها قبل حلول الظلام، طبعاً ظلّ سائقاً حتى آخر عمره، إذ أسلم الروح ليل الثلاثين من أيار 2022، على أثر ذبحة قلبية بعد تضخم في القلب، وانسداد في الشرايين رافقه أكثر من ثلاثين عاماً، وظل يرفض حتى إجراء ناظور «كسترة».
أذكر أنّني أكثر من مرّة، وأنا أغطّي العدوان على النبطية، ومنها عدوان نيسان 1996، عاينت أبي وسيارته لوحدهما في وسط السوق، برغم القصف المتناثر هنا وهناك، والقريب جدّاً من ساحة المدينة. قلت له مرّة: «أنا أفهم صعوبة عملي وضرورته، ما يجعلني أدخل إلى قلب النبطية لأنقل همجيّة العدوان، لكن، قلّ لي، بربّك، لماذا أنت هنا؟». أجاب باختصار: «بعد قليل أخرج من هنا». ابتعدت عنه مسافة 300 متر، وإذ بقذيفة تسقط في منتصف المسافة الفاصلة، أدرت السيارة وعدت، وإذ به قد ركن إلى مدخل أحد المباني، ينتظر انتهاء القصف ليعود إلى الطريق.
أصيب أبي بشظية صغيرة من انفجار قذيفة قرب بيتنا في اجتياح العام 1982، وقد شاع خبر استشهاده، إلى حين قصير.. لكنه لم يغادر أبي «نبطيّته» بالرغم من كل ما تعرّضت له منذ العام 1975، إذ بدأ ينهال عليها القصف المدفعي من قلب فلسطين المحتلة ومن ثم من المنطقة الحدودية المحتلة، ثمّ لاحقاً مع كلّ اجتياح وعدوان. وبقيتُ أستغرب تعلّق أبي في هذه الساحة الضيّقة من الدنيا، وتعريض نفسه للخطر الشديد، إلى أنْ أدركت أنّ ثمّة جذور له هناك، فهو ولد في هذا المكان في العام 1927، في الفترة التي كانت النبطية تحت الانتداب الفرنسي، يوم كانت البلدة أشبه بقرية على عفّتها وبراءتها، أيّ عفّة العمران المتواضع غير الشاهق، وبراءة العلاقات التي كانت تجعل من النبطية عائلة واحدة. ثمّ تنشّق لاحقاً هواء فلسطين المجبول بهواء جنوب لبنان، قبل أن تأتي العائلات الفلسطينية إلى النبطية في أعقاب احتلالها في العام 1948، وارتباطه بعلاقات وثيقة مع عدد من سكّان المخيم.
لأبي جذور في ساحة النبطية فرّخت شجرة.. صحيح أنّ الجذع هوى، بيد أنّ الزيتون يظلّ يولد من الجذور الأولى.. وإلى أبي في ذكراه ألف أغنية، وزجل شعبي، وصوت أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب ونصري شمس الدين، وكلّ ما كان يهوى سماعه من طربٍ وأغنيات، من غير تكلّف، أو ضرر بأهواء الغير، وإليه كذلك ما كان يتشهّد به عند الفجر، لحظة خروجه مع بصيص النور، أو في سيادة العتمة، ليصل إلى ساحة السّوق ويرتشف «شايه» أو قهوته، ولفافة التبغ، التي بقي نديمها حتى في السرّ، بعيداً عن رقابة أمّي، بعدما نصحه الأطباء بضرورة تركها، لكي يحافظ على سلامة قلبه.