بأقلامهم >بأقلامهم
أزمة المرجعيات... وضياع البوصلة الوطنية



جنوبيات
في خضم الأزمة الممتدة التي تعصف بنا كشعب وقضية، لا يعود الخطر الأكبر محصورًا في العدوان، ولا في الحصار، ولا حتى في غياب الإمكانيات… بل يتجلى في نقطة أكثر خطورة، وأكثر وجعًا: فقدان البوصلة وضياع المرجعيات.
لقد دخلنا مرحلة مربكة، تاهت فيها العناوين، وذابت الحدود بين ما هو وطني، وما هو شخصي، وما هو تكتيكي وما هو مبدئي. وفي هذه الدوامة، لم نعد قادرين على الإجابة عن سؤال بسيط: "إلى أين؟"… لأننا أولًا لم نعد نعرف من يُحدد الطريق، ومن نحاسبه، ومن نثق به.
مرجعيات غائبة… وصوت بلا صدى
إن أخطر ما نعيشه اليوم هو أزمة مرجعية وطنية جامعة. لم يعد هناك من يقول بوضوح: هذا هو المشروع، وهذه هي الثوابت، وهذه هي المرحلة، وهذه هي الأولويات.
في ظل غياب هذه المرجعية، أصبح الفضاء الوطني مفتوحًا على كل التفسيرات، وكل التقديرات، وكل الشائعات… فأصبح المواطن لا يثق بأحد، والمجتمع لا يثق بقياداته، والفصائل لا تثق ببعضها، وحتى النُخب تحوّلت إلى جزر متباعدة.
ومن هنا، ولّدت هذه الفوضى أزمة ثقة خانقة، لا فقط في الخطاب، بل في كل المسارات: هل نحن في حالة مقاومة؟ أم هدنة؟ هل نحن نسعى للتحرير؟ أم للإدارة؟ هل الأولوية للإغاثة؟ أم للمواجهة؟ أم للنجاة الفردية؟
مسؤولية أخلاقية ووطنية
بصفتي ناشطًا في الشأن العام، ومستشارًا إداريًا ومجتمعيًا، وأتحمل مسؤولية أخلاقية تجاه شعبي، أشعر بثقل كبير تجاه ما يحدث.
أعترف أننا كمجتمع مدني، وكفاعلين في الحقل العام، لم نُوفّق بعد في بناء مرجعية مرئية وموثوقة، تشرح للناس المشهد، وتُرشدهم إلى الطريق، وتمنحهم الثقة في أن هناك من يملك تصورًا ورؤية ومسارًا.
نحن اليوم في لحظة تاريخية تحتاج إلى شجاعة في تحمل المسؤولية لا في تبادلها، وإلى جرأة في طرح الأسئلة الصعبة لا في الهروب منها.
مجتمعات تُستخدم كمصدر للمعلومة فقط
من المفارقات المؤلمة، أن المجتمع الفلسطيني اليوم، خاصة في غزة، لم يُعد يُنظر إليه كمصدر للإرادة، أو شريك في القرار، بل فقط كمصدر للمعلومة: كم عدد الجرحى؟ كم عدد المحتاجين؟ كم بيتًا هُدم؟
لكن لا أحد يوضح له الوجهة... لا أحد يفتح أمامه الخيارات... لا أحد يعطيه خارطة تُساعده على اختيار الطريق.
وهنا يضيع الحق في الاختيار، وتُخطف الإرادة، ويُترك الإنسان في حالة تيه وانكسار، ينتظر معونة أو تصريحًا، لا أفقًا ولا خطة.
ما نحتاجه الآن
نحتاج قبل أي شيء إلى إعادة تعريف المشروع الوطني في ضوء ما نعيشه، بعيدًا عن الشعارات المستهلكة أو الاصطفافات الجاهزة.
نحتاج إلى:
- مرجعية مهنية مستقلة، لا تفرض، بل توضح.
- مسار سياسي - مجتمعي واقعي، لا يُقصي ولا يُنافق.
- خطاب يعيد للناس الثقة بقدرتهم، وبأنهم ليسوا مجرد أرقام أو أدوات في معادلات الآخرين.
- منصات توجيهية تشاركية، تُظهر الخيارات وتدعم المجتمع لاختياره الحر.
في الختام...
أكتب هذا المقال لا لأُحمّل جهة واحدة المسؤولية، بل لأبدأ بتحمّل مسؤوليتي أنا أولًا.
وأدعو كل من يرى نفسه جزءًا من هذا الشعب، أن يُسهم معنا في بناء أرضية مرجعية جديدة، تقوم على: الوضوح، والشفافية، والمشاركة، والاعتراف بأننا في أزمة لا تحلها البيانات، بل تحلها إرادة حقيقية بإعادة بناء الثقة والبوصلة معًا.