لبنانيات >أخبار لبنانية
الشغور يأكل الإدارات الرسميّة ويشل الخدمات العامّة
الشغور يأكل الإدارات الرسميّة ويشل الخدمات العامّة ‎الأحد 16 10 2022 11:00
الشغور يأكل الإدارات الرسميّة ويشل الخدمات العامّة

جنوبيات

نشرت مبادرة غربال اليوم السبت تقرير مجلس الخدمة المدنيّة عن المسح الشامل لأعداد الموظفين والمتعاقدين والأجراء والعاملين بأي صفة كانت، في الإدارات والمؤسسات العامّة والمصالح والصناديق المستقلّة، والمجالس والهيئات الممولة من الدولة. أهميّة التقرير اليوم، تكمن في سماحه بفهم وضعيّة القطاع العام الراهنة، من ناحية كفاية أعداد الموظفين أو المتعاقدين في الإدارات والمؤسسات العامّة، وملاءمة توزّعهم على هذه المؤسسات والإدارات. مع الإشارة إلى أنّ خطّة التعافي المالي كانت قد نصّت على الشروع بعمليّة إعادة هيكلة للكيانات العامّة، مع إعادة توزيع الموظفين بحسب الحاجة، ما يفسّر الحاجة إلى هذا المسح في هذه المرحلة بالتحديد.

أهم ما تبيّن اليوم من هذا المسح، هو أن الإدارات العامّة تعاني –وبعكس ما يعتقد البعض- من أزمة شغور فادحة ونقص في أعداد الموظّفين في الملاك، لا أزمة فائض في الموارد البشريّة، وهو ما تفاقمه حاليًّا موجة الهروب من الخدمة العامّة نتيجة تدنّي قيمة أجور موظفي القطاع العام. أمّا التوسّع في استقدام مستخدمين من خارج الأصول (عبر مسميات التعاقد والمياومة وغيرها)، لحسابات الزبائنيّة الحزبيّة الضيّقة، فأدّى إلى إحداث تضخّم في بعض فئات المستخدمين، دون أن معالجة مسألة الشغور الشامل في وظائف الوزارات والإدارة العامّة.

المؤسسات المستثناة من المسح
ثمّة مؤسّسات قررت أن تستثني نفسها من هذا المسح، عبر التغاضي عن الاستجابة لمراسلات مجلس الخدمة المدنيّة وعدم تزويد المجلس بالمعلومات، رغم تكرار الاتصال بها، ورغم أن المسح كان من المفترض أن يشمل جميع أفراد القطاع العام من دون استثناء. من هؤلاء مثلًا:


– الإدارات الدينيّة العاملة تحت وصاية رئاسة مجلس الوزراء (دار الإفتاء والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى والمحاكم الشرعيّة الدينيّة السنيّة والشيعيّة).

– الأسلاك الأمنيّة التابعة لوزارة الداخليّة، ومنها الأمن العام ومجلس الأمن الداخلي وأمن المطار.

– الأسلاك العسكريّة التابعة لوزارة الدفاع، ما يشمل الغرفة العسكريّة والمجلس العسكري وعديد الجيش عمومًا.


– مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف ومصرف الإسكان ولجنة بورصة بيروت.

– إدارات عامّة متفرّقة لم تستجب دون مبرّر، كالمكتب الوطني للدواء وسوديتل ولجنة مراقبة هيئات الضمان وغيرها.

بمعنى آخر، وقبل تفصيل نتائج المسح، من المهم لفت النظر إلى أنّ الأرقام تستثني كتلة من العاملين في ثلاثة قطاعات عامّة رئيسيّة، هي الجيش وقوى الأمن الداخلي ومصرف لبنان، بالإضافة إلى بعض الإدارات الصغيرة الأخرى. وإذا كان تحسّس الجيش وقوى الأمن من هذا المسح مفهوم من زاوية الحسابات الأمنيّة (لكن غير مبرّر)، فمن غير المفهوم ولا المبرّر إصرار بعض الإدارات الأخرى على إخفاء معلومات ترتبط بأعداد الموظفين والمتعاقدين لديها، إلا إذا كان ثمّة ما يُراد إخفاؤه في هذه المعلومات.

كيف يتوزّع أفراد القطاع العام؟
يفصّل التقرير توزّع أفراد القطاع العام، الذين يبلغ عددهم الإجمالي 91,961 فرداً، بحسب نوع التعاقد، على الشكل التالي:

– 37,916 متعاقداً، بما يشمل عقود المياومة والتعاقد غب الطلب وشراء الخدمات والتعاقد على المهمّة والعمّال بالفاتورة وغيرها من العقود المؤقتّة التي تلتف على آليّات التعيين والاستخدام القانونيّة عبر مجلس الخدمة المدنيّة.

– 37,197 موظفا ومستخدما ثابتاً.

– 3,452 أجراء و13,396 عاملين بصفات أخرى.

تكفي هذه الصورة لتبيان التشوّه الكبير في توزّع أفراد القطاع العام على أنواع التعاقد المختلفة، إذ لا تتجاوز نسبة الموظفين والمستخدمين حدود ال40% من إجمالي أفراد القطاع العام، ما يشير إلى الإفراط باللجوء إلى أساليب التعاقد المؤقتّة التي تجري خلافًا للأصول القانونيّة، ولغرض تجاوز آليّات التشغيل الشرعيّة التي تمر عبر مجلس الخدمة الماليّة بحسب حاجة المؤسسات والإدارات العامّة الفعليّة. كما يعكس هذا الواقع سعي الأحزاب السياسيّة لتجاوز قرار وقف التوظيف في القطاع، لغرض توزيع الخدمات على المناصرين وشراء الولاءات الانتخابيّة. وهذا تحديدًا ما انعكس في تنامي نسبة الشغور في الإدارات الرسميّة والمؤسسة العامّة، بالنظر إلى توقّف استقدام الموظفين بناءً على حاجة القطاع العام الفعليّة، وتنامي استقدام المتعاقدين بناءً على حسابات الأحزاب السياسيّة الخاصّة.

توزّع أفراد القطاع العام بحسب التبعيّة الإداريّة
توزّع أفراد القطاع العام بحسب التبعيّة الإداريّة يظهر تركّز الكتلة الأساسيّة من هؤلاء في قطاع التعليم، نتيجة الحاجة المستمرّة للتعاقد مع الأساتذة في المدارس الرسميّة والجامعة اللبنانيّة، وعدم القدرة على الاستغناء عن خدماتهم. فمن أصل ال91,951 عاملا في القطاع العام، يتوزّع نحو:

– 49,527 فرداً تحت وصاية وزارة التربية والتعليم العالي، حيث تشمل هذه الكتلة من الأفراد بشكل أساسي أساتذة التعليم الرسمي والجامعة اللبنانيّة من متعاقدين وموظّفين دائمين (منهم 11,185 فرداً يعملون في الجامعة اللبنانيّة).

– 25,635 من العاملين في المؤسسات العامّة والمصالح المستقلة، كمؤسسات ومصالح المياه ومؤسسة كهرباء لبنان وغيرها.

– 15,527 فرداً في إدارات الدولة الرسميّة والمديريّات العامّة التابعة للوزارات.

– 1,272 في البلديّات الخاضعة لصلاحيّات مجلس الخدمة المدنيّة.

ومن الناحية العمليّة، تعكس الأرقام أعلاه تنامي كتلة العاملين في المؤسسات العامّة والمصالح المستقلة، نتيجة توسّع عمليّات التعاقد المؤقّت والمياوم في هذا النوع من المؤسسات والمصالح. كما تعكس في الوقت نفسه تناقص نسبة الموظفين في الإدارات العامّة، وهو ما انعكس في نسبة الشغور المرتفعة في هذه الإدارات.

الشغور الكبير في الإدارة العامّة
كل ما سبق من اختلالات في توزّع الأفراد العاملين في القطاع العام بحسب التبعيّة، وبحسب نوعيّة التعاقد، انعكس على شكل نسبة شغور كبيرة في الإدارة العامّة، إلى الحد الذي بات يهدد بشل الخدمات العامّة التي كان من المفترض أن تؤدّيها هذه الإدارات. فمن أصل 28,082 وظيفة ملحوظة في الإدارات العامّة، بلغت نسبة الشغور في هذه الوظائف حدود ال19,907 وظائف، ما يعني أن نسبة الشغور في وظائف القطاع العام باتت تتجاوز 71%. وبذلك، يكون من الواضح أن ثمّة انتفاخ غير مبرّر في وظائف التعاقد المؤقّت في المصالح والمؤسسات العامّة المستقلّة، للأسباب التي عددناها سابقًا، في مقابل شغور كبير في الوزارات والإدارات العامّة.

مع الإشارة إلى أنّ نسبة الشغور في ملاك الدولة اللبنانيّة توزّع على الشكل التالي: 71% في الإدارات العامّة، 82% في البلديات، و56% في المؤسسات العامّة. أمّا على صعيد توزّع الشغور بحسب فئات الموظفين، فارتفعت نسبة الشغور إلى حدود ال23% في وظائف الفئة الأولى، وال70% في وظائف الفئة الثانية، في مقابل 64% بالنسبة إلى وظائف الفئة الثالثة و70% لوظائف الفئة الرابعة و91% بالنسبة إلى وظائف الفئة الخامسة. وبخلاف النظرة الشائعة، التي تعتقد بوجود انتفاخ في عدد موظفي القطاع العام الدائمين، لم يتجاوز عدد الوظائف التي أوصى مجلس الخدمة المدنيّة بإلغائها حدود ال7,072 وظيفة، في مقابل الشغور الضخم الذي يقارب ال19,907 وظائف.

أهم ما في الموضوع، هو أن نتائج تضخّم أعداد المياومين والمتعاقدين، مقابل الشغور في الملاك والوظائف الدائمة، لم تقتصر على شلل الإدارات العامّة نتيجة فقدان الموارد البشريّة اللازمة لتشغيلها عبر وظائف الملاك. فالاعتماد على المياومة والتعاقد المؤقّت يحرم الأفراد العاملين في القطاع العام من شبكات الحماية الاجتماعيّة التي يقدمها العمل داخل الملاك، وأهمّها التغطية الصحيّة والتعويض التقاعدي والتقديمات العائليّة وغيرها. وهذا تحديدًا ما يجعل من هذا الخلل البنيوي خطرًا على الأمن الاجتماعي للعاملين في القطاع العام، بالإضافة إلى خطورته على إنتاجيّة الإدارة العامّة.

المصدر : جنوبيات