بأقلامهم >بأقلامهم
سرّ انجذاب القوى الكبرى "لبائع القهوة" الهندي؟
سرّ انجذاب القوى الكبرى "لبائع القهوة" الهندي؟ ‎الأربعاء 12 07 2023 14:47 محمد السماك
سرّ انجذاب القوى الكبرى "لبائع القهوة" الهندي؟

جنوبيات

بعيداً عن الحرب الروسيّة في أوكرانيا وعن الصراع الأميركي – الروسي حول أسباب ونتائج تمدّد حلف شمال الأطلسي، وبعيداً عن التوتّر حول تايوان بين الصين والولايات المتحدة والمساعي الأميركية لإقامة جناح للحلف الأطلسيّ يضمّ إلى جانب اليابان وكوريا الجنوبية كلّاً من أستراليا ونيوزيلندة، هناك صراع من نوع آخر يستهدف كسب ودّ الهند. ويدور هذا الصراع بين الأطراف الدولية الكبرى الثلاثة: الولايات المتحدة والاتحاد الروسيّ والصين.

من يكسب ودّ بائع القهوة مارندا مودي؟
كان الرئيس مودي رئيساً لولاية هنديّة (حجرات) في عام 2002 عندما تعرّض المسلمون فيها لعملية قتل جماعي تُوّجت بتدمير مسجد باربا التاريخي. فالهندوس يزعمون أنّ الموقع الذي كان يقوم عليه المسجد كان مسقط رأس أحد آلهتهم. يومها وقف مودي مع الحركة الهندوسية، فاستقطب الحركة المتطرّفة، ومنها وصل إلى زعامة الحزب الأشدّ تطرّفاً مهابها راتا، ثمّ إلى الرئاسة. وردّاً على موقفه اللاإنساني في ذلك الوقت، صدر قرار في الولايات المتحدة بمنعه من دخولها. ولكنّ الرئيس مودي هو الآن الرئيس الرابع في التاريخ الذي تكرّمه الولايات المتحدة بمنحه للمرّة الثالثة شرف مخاطبة الكونغرس بمجلسَيْه الشيوخ والنواب، وذلك بعد رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل والزعيم نلسون منديلا والرئيس الأوكراني الحالي فولوديمير زيلينسكي.


ليست الهند قويّة بعدد سكّانها ولا بعصبيّتها الدينية. ولكنّها قويّة بالتطوّر التقني الذي حقّقته

خلافاً لرؤساء الهند السابقين الذين كانوا من متخرّجي الجامعات الكبرى في بريطانيا أمثال نهرو وغاندي، فإنّ الرئيس مودي "تعلّم على نفسه". كان بائعاً للقهوة في أحد الأحياء الشعبية في العاصمة دلهي. وهو الآن رئيس أكبر ديمقراطية في العالم، إذ إنّ الهند تتصدّر لائحة الدول الأكثر سكّاناً. فهي سبقت الصين هذا الشهر في عدد السكّان (1.4 مليار إنسان، 60 مليوناً منهم فقط يعملون). وتوصف الهند بأنّها الديمقراطية الكبرى في العالم على الرغم من الاضطهاد العنصري الذي تتعرّض له فئة من السكّان "المنبوذين"، ومن الاضطهاد الديني الذي يتعرّض له المسلمون (200 مليون) والمسيحيون. فالهندوسية ليست ديناً للأكثرية فحسب، لكنّها عصبية دينية لا تتعايش مع أيّ عقيدة أخرى، وذلك على خلاف ما كان عليه الوضع منذ تقسيم القارّة في عام 1947 (اغتيال غاندي الهندوسيّ على يد متطرّف هندوسيّ) وقيام دولتَيْ الهند وباكستان، بعد حرب أودت بحياة أكثر من مليون ضحيّة.

سرّ قوّة الهند
ليست الهند قويّة بعدد سكّانها ولا بعصبيّتها الدينية. ولكنّها قويّة بالتطوّر التقني الذي حقّقته. إنّ سبعة في المئة من الأجهزة الإلكترونية، الهواتف النقّالة، التي تنتجها شركة أبل مثلاً، مصدرها الهند. فهي نفسها في طريقها إلى أن تصبح "دولة إلكترونية". ويتحدّر رؤساء شركات عالمية كبرى مثل "آي بي إم" ومايكروسوفت والفايت من أصول هندية. وعلى خلاف الصورة المتحفّظة في المجتمع الأميركي للمتحدّرين من أصول صينية، فإنّ الأميركي المتحدّر من أصول هندية يتمتّع بالثقة والاحترام.
كانت الولايات المتحدة قد عقدت اتفاقاً للتعاون النوويّ مع الهند في عام 2005 في محاولة لجرّها إلى معسكرها في جنوب شرق آسيا. وكان اتفاق التعاون (الذي استنكرته بشدّة باكستان) أداة أميركية غير مباشرة للضغط على الصين. فقد اعتبرت بكين أنّ واشنطن تحاول توظيف الخلاف الصيني – الهندي على الحدود المشتركة لجرّ الهند إلى معسكر معادٍ لها. وهو الأمر المستمرّ حتى الآن. وعندما أقامت الصين قاعدة عسكرية بحريّة في سريلانكا المجاورة للهند، أدركت دلهي خطورة التطلّعات الصينية، وسارعت بخطى أسرع إلى التجاوب مع التحريض الأميركي. وكانت الصين في الستّينيات من القرن الماضي قد ألحقت بالهند هزيمة عسكرية مذلّة وسيطرت على المناطق الشمالية منها التي تعتبرها كلّ منهما جزءاً منها حتى اليوم. ولكنّ الودّ المفقود بين دلهي وبكين لا يعني عداءً هنديّاً للمحور الصيني – الروسي. فالهند متعطّشة للنفط الروسي الذي تحصل عليه الآن على الرغم من المقاطعة الأميركية بأسعار منخفضة. وتشترك الهند في أحلاف دولية – إقليمية مع كلّ من الصين وروسيا. وأصبحت هذه المشاركة جزءاً من استراتيجيتها الدولية. من هنا اشتداد التنافس الصيني – الأميركي، والروسي – الأميركي على كسب ودّ الهند. وهذا ما يفسّر المبالغة الأميركية في تكريم الرئيس مودي بعدما كان ممنوعاً من دخول البلاد!! وهو ما يفسّر أيضاً العروض المغرية التي قدّمتها الولايات المتحدة إلى الهند لتطوير صناعتها العسكرية. والهند هي من أكثر دول العالم استيراداً للأسلحة. فعندما قام وزير الدفاع الأميركي الجنرال لويد أوستن بزيارة الهند في الخامس من حزيران، عرض على الهند مشروعاً لصناعة مولّدات الطائرات العسكرية والمدنية التي تعتمد عليها شركة بوينغ في الطائرات العسكرية المقاتلة "م ك 2"، وحتى في طائرات المراقبة والتجسّس. وجاء العرض الأميركي في الوقت الذي أدّت فيه الحرب الروسيّة على أوكرانيا إلى تأخير إمدادات الهند بالأسلحة والمعدّات العسكرية الأخرى التي اشترتها من روسيا.

كانت الولايات المتحدة تحرص على مراعاة مصالح باكستان وعلى الحسابات الهندية – الباكستانية في كلّ صفقة عسكرية أو سياسية تعقدها مع الهند. إلا أنّ تردّي الأوضاع الداخلية في باكستان حرّر الإدارة الأميركية من هذه الحسابات. صحيح أنّ باكستان دولة نووية ومنفتحة على الصين، إلا أنّها اقتصادياً أصبحت متخلّفة عن الهند التي دخلت عصر الصناعة الإلكترونية، إضافة إلى أنّ الاضطرابات السياسية الداخلية في باكستان والاستقرار السياسي في الهند برئاسة مودي وحزبه الهندوسي (المتطرّف) وضعا الهند في موقع جعل الدول الكبرى (الصين وروسيا والولايات المتحدة) تتهافت لكسب ودّها، متجاوزةً في ذلك انتهاكات حقوق الإنسان التي يتعرّض لها غير الهندوس على نطاق واسع.
تتصدّر الهند لائحة الدول الأكثر استيراداً للأسلحة في العالم. وتتصدّر لائحة الدول الأكثر كثافة سكّانية في العالم. وتتصدّر أيضاً لائحة الدول الأشدّ عنصرية في العالم. ولا تكتمل هذه اللائحة إلا بإقرار الأمر التالي، وهو أنّ الهند هي أكثر دول العالم استقطاباً للقوى الدولية المتصارعة.

المصدر : أساس ميديا