مقالات مختارة >مقالات مختارة
ماكينات الخياطة بين مصلحها والزمن
ماكينات الخياطة بين مصلحها والزمن ‎الثلاثاء 2 02 2016 13:13
ماكينات الخياطة بين مصلحها والزمن
الخياطة

رنا جوني

لم يخذل العم علي معتوق مهنته العتيقة "تصليح ماكينات الخياطة" المهنة التي كانت سيدة القرى قبل السبعينات من القرن الماضي، اذ كانت كل سيدة تملك ماكينة خياطة وتخُيط ملابس اولادها في منزلها، فالفقر الذي كان سيدا في تلك الفترة كان سر ابداع السيدات، كن يدركن ما يردن، كن يعملن باتقان رغم انهن اميات، ما زال مواظبا عليها، يعمل بها ويحميها من خطر الانزلاق في اتون "ثورات التطور العجيبة" وفق تعبيره.

الستيني الذي تعلم المهنة في مصنع سنجر في بيروت زمن عز المهنة، يشهد على حقبة مهمة من تطور البيئة الداخلية للمجتمع اللبناني، يتحدث عن الضرير احمد زينو المهندس العبقري في الشركة الذي "غلب بعلمه وحذاقته وذكائه كبار مهندسي الشركة الاجانب، ولم يصدقوا انه ضرير"، قبل ان يقول "الابداع ليس آلة نحركها بل هدف نصبو اليه لنصله بنجاح".

مهنة مستحدثة
تمرس الحاج علي معتوق بمهنته حد الاتقان، لم يتعلم في المدارس بل بالممارسة، في محله الصغير عند احدى زاويا طريق زبدين_حاروف تلفتك تلك اليافطة المعلقة "معتوق لتصليح ماكينات الخياطة"، امامه تتبعثر ماكينات سنجر ومارسيدس الاشهر بين الماكينات، تحت اشعة الشمس المتدلية، يجلس ينتظر زبونا عابرا يحمل ماكينة يريد اصلاح علتها، ولكن السؤال المباح هل مازالت تلك الماكينات سيدة المنازل ام اندثرت؟، سؤال يقابله العم علي بضحكة باهتة "الزمن تغير مين بعدو بخيط، الحضارة سبقتنا بأشواط بس حضارتي وثقافتي اجدها هنا بين تلك القطع". ساعات طويلة يمضيها في عمله، يعيد احياء عمل ماكينة من لا شيء، يطبب علتها، مفك وبراغ وعدة بسيطة هي رسول الدواء لعلاج ما خربه الاهمال في آلة رمى بها اصحاب الدار جانبا ولكنهم تذكروها على حين غفلة، لا يتردد بالقول "ان هناك من يعمل لاعادة العمل بها، قد تحولت عند بعض السيدات مهنة مستحدثة لكسب الرزق، تُدخل عليها بعض التعديلات نحولها الى الكهرباء او نتركها كما هي".
تدخل سيدة تريد اصلاح ماكينة ورثتها عن امها تردد "بدي حطها تحفة في البيت"، فيما يضحك العم علي "شوف لوين وصلنا تاريخنا نضعه تحفة، الغرب سبقنا باشواط، طوّر حرفه وصناعاته وبات يصدرها لنا. ونحن نتمسك بالطاولة والكرسي وسيارة عقدة النقص عنا، تركنا كل ما هو جميل ولحقنا القشور".

صناعة الجلود
خبر العم علي مهنته عن كثب، تنقل بين عدة مناطق من بيروت الى ان استقر في زبدين بعد الحرب، هو الوحيد الشاهد على حقبة الصناعة المحلية في المنطقة " كانت المدينة تكتظ بالمصانع والمعامل، لا تخلو ضيعة من الكندرجي والخياط والصناعي وكانت صناعة الجلود رائدة وكذلك صناعة الاقمشة والخياطة اليوم تحولت الى ذكرى في الذاكرة، جيل اليوم لا يفقه شيئا همه كيف يشعل سيجارة وينفخ نرجيلته لا يفكر ابعد من هاتفه المزركش".
في محله يعمل وحيدا، يصلح عددا من الماكينات التي احضرها البعض اما لاعادة العمل بها او لتحويلها تحفة في المنزل، يتفحص ماكينة سنجر تعمل على الدولاب، كانت "سيدة الدار"، تبدأ رحلة العمل باكرا، يقف امام احدى الماكينات يزيل غبار الزمن عنها، يتفقد زيتها ثم يبحث عن علتها ليقطع دابر المرض منها، انحصر عمله في العشرين سنة الماضية، كانت النسوة "يحدلن" المحل كل تريد اصلاح ما تعطل من ماكينتها الموتور، مراية الابرة، دولاب تقطيع وتنسيل خيط، وغيرها من التصليحات التي يعالجها العم علي بسرعة البرق، "المهنة تحتاج الى تحكيم عقل وحذاقة، الزمن علمني كيف اكشف العلة سريعا، الماكينة تشبه حياتنا، نقتلها بأيدينا بحجة اننا نطور انفسنا. كيف نقتل حضارتنا، بقتل تراثنا، ماذا تركنا للمستقبل"، يتحدث معتوق عن مهنته وكأنه "بروفسور" وباحث عن معالجة آفة العصر "الثقافة العكسية اكلت افكارنا، تخيل انك تحول حرفة الى تحفة".

متغيرات العصر
لم يتعب العم علي من مهنته يوما، ولن يتوقف عنها طالما هو يتنفس على حد قوله، "فهي الروح التي اتنفس من خلالها، صحيح تقلص العمل ولكن اعول على متغيرات العصر، زمان الفقر كان يحرك الناس نحو البحث عن العمل، نعيش تاريخا مشابها، الفقر يستفحل. البطالة تعم بيننا، ان لم نفكر بايجابية ونذهب نحو حرف نملكها ونبدع بها لن نغير مصير واقعنا، الخياطة مثل المجتمع كيف تخيطه يخرج، يجب ان نفكر بايجابية وواقعية ربما نحتاج الى صيانة عقولنا مثل تلك الماكينة فتعود الى رشدها".
يحاول العم علي ترميم بعض من حرف الماضي "ماكينة الخياطة تعد موروثا شعبيا عتيقا" برأيه "الخياطة فن تحتاج الى وقت وفكر غير مشغول، وتحولت الى مصلحة من لا مصلحة له، القلة تدفع لاحياء ما لم يكن في الحسبان".

هجمة التطور
لم يشهد قطاع الخياطة او التصليح نقابة تحميه وتصونه من هجمة التطور، ترك وحيدا يصارع ثيران التطور، فسلبت منه الروح، للاسف لم يتغير شيء في سياسة الدولة التي ما زال السياسي فيها يُصارع الآخرين على الكرسي، وما زالت القطاعات الحرفية والصناعية مهمشة تصارع على الوجود وبين الاثنين ما زال العم علي يقاتل لاجل ان تبقى اقدم حرفة في النبطية على قيد الحياة "الاصالة اليوم تنافسها ماكينات الصين، عجبا لزمن التطور". يقول كلمته ويمضي باحثا عن مرض احدى الماكينات بين يديه يحرك دولابها وكأنه يحرك زمنا، يجرب الابرة كما لو كان يضع اصبعه على مرض لا دواء له "لبنان غني بالتراث والحرف يجب حمايته لانه موروثنا، الكل يتصارع على التاريخ ونحن ندفنه في قبر الحضارة الناعمة الخطيرة".